أسطورة أوديب في الأدب - بين المخيلة والأسطورة

أسطورة أوديب - لطالما كانت الأساطير مصدر إلهام للأدب والفن التشكيلي، حيث نجحت في تجسيد الصراعات النفسية والإنسانية التي تتداخل مع مصائر أبطالها المأساويين، ومن بين هذه الأساطير التي ألهمت العديد من الفنانين والأدباء حول العالم تأتي أسطورة "أوديب"، التي تناولها سيجموند فرويد في نظريته الشهيرة بـ"عقدة أوديب"..

أسطورة أوديب 

وعقدة أديب التي اشتهر بها فرويد تعبر عن تعلّق الطفل الذكر بوالدته ورفضه لوالده، وتعبّر عن نزاع عميق بين الرغبات المكبوتة والواقع.

عقدة أوديب: بين الأسطورة والفن وعلم النفس

تعد " عقدة أوديب " مصطلحًا نفسيًا يطلق على العلاقة المعقدة بين الطفل ووالدته، حيث يتسم الطفل الذكر بمشاعر حب وتعلق تجاه أمه، مع مشاعر كراهية وغيرة تجاه والده، هذه العقدة تمثل الأفكار والمشاعر الجنسية المكبوتة في العقل الباطن للطفل تجاه والدته، وهي بذلك تُعتبر نقيضًا لعقدة إليكترا، التي تتعلق بالطفلة الأنثوية. وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة النفسية قد تظهر في مرحلة عمرية معينة وتختفي مع الوقت، إلا أن استمرارها قد يتحول إلى سلوك مرضي يحتاج إلى العلاج. بغض النظر عن صحة نظرية فرويد من عدمها، فإنها قد فتحت أمام الأدباء والفنانين أبواب الخيال والإبداع، حيث ربطوا بين عقدة أوديب وأساطير اليونان القديمة، واستلهموا منها العديد من الأعمال الأدبية والفنية.

أسطورة أوديب: القصة الأصلية

تبدأ أسطورة أوديب بملك مدينة طيبة، لايوس، الذي حلم بكابوس مرعب، فاستدعى عرافه ليفسر له هذا الحلم، أخبره العراف بنبوءة مفادها أنه سيرزق بولد سيقتله ويتزوج من زوجته، جيوكاستا، ويستولي على حكم المدينة، وخوفًا من أن تتحقق هذه النبوءة، قرر لايوس أن يتخلص من طفله بعد ولادته، فأمر بأن يُثقب قدمه وتُربط أصابعه معًا قبل أن يُلقى به على جبل مهجور ليموت.

لكن القدر كان له رأي آخر، إذ مرّ راعٍ بالطفل وأخذه إلى الملك بوليباس في مدينة كورنثوس، حيث قرر الملك وزوجته تربيته كابن لهما، بسبب التشوه في قدمه، أُطلق عليه اسم "أوديب" الذي يعني "القدم المتورمة". 

نشأ أوديب في قصر كورنثوس وعاش حياة مترفة، وأصبح شابًا حكيمًا ومتعلمًا، وعندما بلغ سن الرشد، أُرسل في مهمة إلى معبد دلفي حيث التقى بعراف تنبأ له بأنه سيقتل والده ويتزوج من والدته، فهرب أوديب ليجنب نفسه وقوع تلك النبوءة.

وفي طريقه إلى طيبة، تصادف أوديب مع رجل عجوز في عربة، نشب بينهما خلاف أدى إلى قتل أوديب لهذا الرجل ومن معه، وعندما وصل إلى طيبة، وجد المدينة تعاني من هجوم "أبو الهول"، الذي كان يعذب سكان المدينة بإلقاء أحجية يصعب حلها، وعندما حل أوديب اللغز، قتل أبو الهول وانتهت محنة المدينة، فُجع أهل طيبة بمنقذهم، وتم تنصيب أوديب ملكًا لهم وتزوج جيوكاستا، التي كانت، للأسف، أمه الحقيقية.

لكن القدر استمر في تحدي أوديب، عندما أصاب الطاعون مدينة طيبة، أخبره العراف بأنه لن يُرفع الطاعون إلا إذا تم العثور على قاتل الملك لايوس، بعد التحقيق، اكتشف أوديب الحقيقة المدمرة: هو نفسه قاتل والده وتزوج أمه، وفي لحظة من الصدمة، انتحرت أمه جيوكاستا، بينما فقأ أوديب عينيه وتدثر بحزن عميق، ورحلًا في الأرض مع ابنته حتى مات في المنفى.

أوديب في الأدب: من درايدن إلى فولتير وأندريه جيد

لم تكن أسطورة أوديب مجرد قصة عن ملك عاش في العصور القديمة، بل أصبحت رمزاً للأدب النفسي وللصراع البشري مع القدر، وقد تناولها كبار الأدباء في أعمالهم الأدبية، على رأسهم الشاعر الإنجليزي جون درايدن، الذي استلهم شخصية أوديب في أعماله لتسليط الضوء على المعاني العميقة المتعلقة بالقدر والصراع الذاتي.

وبعد درايدن، جاء الكاتب الفرنسي فولتير، الذي كانت لديه نظرة مختلفة تجاه أسطورة أوديب، فقد كانت تحليلاته تميل إلى نقد العادات والتقاليد ونظرة المجتمع تجاه الأساطير، حيث قدم فولتير شخصية أوديب بطريقة تتحدى المفاهيم التقليدية، إذ استخدم الأسطورة كمنصة للنقاش حول التنوير والفكر الحر.

ومن بين الكتاب الذين تأثروا أيضاً بقصة أوديب، الكاتب الفرنسي أندريه جيد، الذي تناول شخصية أوديب بتركيز خاص على النزاع النفسي العميق داخل البطل، فقد أسهمت هذه الأسطورة في تحفيز مخيلته لكتابة أعمال تعكس صراعات النفس البشرية وقيود المجتمع والتقاليد.

أوديب بين الأدب والفن وعلم النفس

تكمن قوة أسطورة أوديب في ارتباطها بالنظريات النفسية، مثل عقدة أوديب التي طورها فرويد، والتي تعبر عن صراعات نفسية عميقة قد تنعكس في حياة الفرد وعلاقاته الاجتماعية، وقد أسهم هذا الربط في تعزيز مكانة الأسطورة كوسيلة لفهم النفس البشرية، حيث فتح الباب أمام الأدباء والفنانين لاكتشاف أبعاد جديدة في التعبير الفني، وللخوض في مواضيع تلامس أعمق مخاوف الإنسان وتطلعاته.

استمرارية الأسطورة بين الماضي والحاضر

يمكن القول إن أسطورة أوديب ليست مجرد قصة قديمة، بل هي حكاية عابرة للزمن والأجيال، تلامس قلوباً وعقولاً في كل عصر. سواء في الأدب أو في الفن، أو حتى في علم النفس، فما زالت هذه الأسطورة قادرة على التغلغل في أعماق المخيلة البشرية، مخلّفة وراءها أعمالاً فنية عظيمة تعكس صراع الإنسان مع نفسه، ومع قدر لا يمكن تجنبه، في صورة من صور الفهم العميق للطبيعة البشرية.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال