حين نقرأ كتاب العالم إرادة وتمثّلاً للفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور، لا نقرأ كتابًا عابرًا في تاريخ الفلسفة، بل نصًا مؤسِّسًا، جاء يقلب الطاولة على التصورات المثالية والعقلانية التي سادت قبله. كتاب، يمكن القول إنه أحدث شرخًا في بنية الفكر الغربي، فبدلاً من أن يرى العالم كمجال للمعقولية والتخطيط العقلي، صوّره كمسرح لإرادة عمياء لا تهدأ، تحرّك الإنسان والكائنات والطبيعة بلا هدف، سوى الاستمرار في الوجود.
![]() |
كتاب العالم إرادة وتمثّلاً |
كتاب العالم إرادة وتمثّلاً ليس مجرد كتاب فلسفي تقليدي، بل سردٌ عميق لرؤية كونية تبدأ من سؤال: ما العالم؟ ويجيب شوبنهاور بأن العالم الذي نعرفه ليس إلا "تمثُّلاً" في وعينا، صورة نُدركها ولا نبلغ كنهها، أما جوهر العالم، فهو "إرادة"، قوى لا عقلانية تضجّ بالحركة، بلا هدف أو نهاية.
كتاب العالم إرادة وتمثّلاً ينفجر من داخله بالعقل والقلق
صدر كتاب العالم إرادة وتمثّلاً في طبعته الأولى عام 1819، وكان بمنزلة الإعلان عن مشروع فلسفي متفرّد، مزج فيه شوبنهاور بين تأملات كانت، ورؤية متشائمة متجذّرة في الإرث البوذي والهندي، فجعل من الإرادة – لا العقل – جوهر الوجود. هذه النقلة لم تكن شكلية، بل هزّت أعمدة الميتافيزيقا الغربية، وفتحت الباب لمدارس فلسفية ونفسية لاحقة، منها التحليل النفسي، والوجودية، وحتى الفن المعاصر.
كتاب العالم إرادة وتمثّلاً يشتمل على أربعة مجلدات رئيسية، يمكن تلخيصها على النحو التالي:
1. التمثُّل: العالم كصورة في وعينا
يرى شوبنهاور أن أول ما يجب إدراكه هو أن العالم ليس شيئًا في ذاته، بل هو تمثُّل – صورة ذهنية تنشأ داخل وعينا، مشروطة ببنية إدراكنا، وهنا يتبنّى شوبنهاور الرؤية الكانطية في أننا لا نرى الأشياء كما هي في ذاتها، بل كما تظهر لنا من خلال قوالب الإدراك: الزمان، والمكان، والعلّية.
كل ما ندركه، سواء كان جمادًا أو كائنًا حيًّا أو حتى أنفسنا بوصفنا "أنا" ظاهريًا، لا يتجاوز كونه مظهرًا أو واجهة لتجليات أعمق، ليست مدركة بالحواس، بل تعاش من الداخل.
العقل، بحسب شوبنهاور، ليس أداة كاشفة للحقيقة المطلقة، بل هو منظومة تصنيفية تنظّم المدركات وفق شروطه الخاصة. العالم إذًا لا يُرى إلا من خلال فلاتر ذهنية، ولهذا فإن الحقيقة الخارجية لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال تجاوز هذا التمثُّل، والتوغّل في جوهر الأشياء، وهو ما سيفتح الباب في الفصل التالي لمفهوم "الإرادة".
كما يشبّه شوبنهاور الإنسان بمن ينظر إلى مرآة لا يرى فيها سوى انعكاسات مشروطة بموضعه ونظراته، دون أن يتمكن من لمس جوهر الصورة ذاتها. فنحن، كبشر، محكومون بأن نعيش داخل حدود الظاهر – هذا التمثُّل – دون أن نملك منفذًا مباشرًا إلى "الشيء في ذاته"، إلا عبر استثناء وحيد: النفاذ إلى أعماق الذات عبر التجربة الداخلية.
ويشير شوبنهاور إلى أن الفن، وخصوصًا الموسيقى، قادر على التحرر مؤقتًا من التمثُّل، لأنه لا يُحاكي الأشياء بل يُجسّد انفعالات الوجود ذاته، متجاوزًا ما هو مرئي أو منطقي.
وهكذا، في هذا الفصل من كتاب العالم إرادة وتمثّلاً، يؤسس شوبنهاور لرؤية جديدة عن الوجود: العالم لا يُعاش كحقيقة موضوعية، بل كتصوّر ذهني قائم في وعينا، وما لم ندرك هذه الحقيقة، سنظل سجناء خداع الحواس، نلهث خلف مظاهر لا تمثل سوى قشرة سطحية من واقع أعمق وأشد ظلامًا: واقع الإرادة.
2. الإرادة: جوهر الأشياء الكامن خلف التمثُّل
في هذا الجزء، يخطو شوبنهاور خطوة جذرية تتجاوز فلسفة كانط، إذ لا يكتفي بالقول إننا لا ندرك "الشيء في ذاته"، بل يدّعي أننا نملك نافذة وحيدة تطل على هذا الجوهر المخفي، وهذه النافذة هي ذواتنا الداخلية.
فعندما ننظر إلى أنفسنا من الخارج، نبدو كمجرد أجسام ضمن العالم المرئي، ولكن عندما نختبر الألم، الرغبة، الاندفاع، أو الجوع، فإننا لا نعي هذه الحالات كصور تمثيلية، بل كخبرات داخلية حيّة. وهنا يكمن الاكتشاف الكبير لشوبنهاور: الشيء في ذاته ليس مادةً ولا عقلًا، بل "إرادة" عمياء متجذّرة في أعماق الكائنات.
هذه الإرادة ليست "إرادة حرّة" بالمعنى الأخلاقي، ولا هي عقلٌ واعٍ أو كيان إلهي يخطط، بل هي قوة أولى، صمّاء، تسعى إلى الاستمرار والتكرار والتكاثر دون هدف أو غاية. إنها الإرادة التي تدفع النبات نحو النور، والحيوان إلى الصراع، والإنسان إلى الألم. لا تهدأ، ولا ترضى، ولا تكفّ عن الدفع.
في نظر شوبنهاور، كل مظاهر الحياة ليست إلا تجلّيات لهذه الإرادة الكونية، التي تستخدم الكائنات كوسائل للظهور والتعبير عن ذاتها. إن الجسد البشري ذاته ليس سوى "إرادة متجسّدة"، وكل أعضائه تعمل لخدمة تلك الإرادة: العين تبصر لتبحث، المعدة تهضم لتغذّي، والدماغ يخطط ليس من أجل الحقيقة، بل من أجل البقاء.
ويصل شوبنهاور إلى استنتاج مروّع: بما أن جوهر الحياة إرادة لا تعرف الرضا، فإن المعاناة هي السمة الأساسية للوجود. فما إن تتحقق رغبة، حتى تنشأ أخرى، وما إن يُروى ظمأ، حتى يظهر ظمأ جديد. والحياة، في صورتها العميقة، ما هي إلا دورة أبدية من الشقاء والتوق.
بهذا، يُسقط شوبنهاور التصوّر العقلاني أو المتفائل عن الوجود، ويؤسس لميتافيزيقا متشائمة، ترى في كل سعي بشري انعكاسًا لقوة لا عقلانية تهيمن على كل شيء. ومع ذلك، لا يُغلق الباب تمامًا، بل يُمهّد لطرح وسائل التحرر من قبضة الإرادة، وهو ما يناقشه في الفصول التالية من كتاب العالم إرادة وتمثّلاً، خاصة من خلال الفن، والتأمل، والزهد.
3. الكون كإرادة في ضوء الفنون: الجمال كنافذة للخلاص
بعد أن رسم شوبنهاور صورة قاتمة للعالم كتمثُّل مفعم بالوهم، وجوهر كوني أعمى يحكمه دافع لا يهدأ، تأتي الفنون لتشكّل، في نظره، الملاذ المؤقت من هذا الاضطرام الوجودي، فالفن، كما يرى، لا يُجاري الإرادة، بل يُعلّقها. إنه تجميدٌ للحظة، تجميد للرغبة، تجميد للقلق، يتيح للإنسان أن يرى العالم لا كشيء يسعى إلى امتلاكه أو استخدامه، بل كظاهرة خالصة، مستقلة، متجاوزة للمنفعة.
في هذا السياق، تُصبح الموسيقى أعلى أشكال التعبير الفني. فبينما الفنون الأخرى – كالنحت والرسم والشعر – تُحاكي صور العالم وتمثّلاته، فإن الموسيقى وحدها، بحسب شوبنهاور، لا تُحاكي التمثُّل، بل تُجسّد الإرادة ذاتها، هي ليست انعكاسًا للعالم، بل ترجمة مباشرة لإيقاعه الباطني.
الموسيقى لا تمر عبر العقل ولا تحتاج إلى مفاهيم أو لغة. إنها تُخاطب أعماق الكائن، وتجعله يشعر بوجودٍ أعمق مما يُرى أو يُقال. وحين يعزف العازف، أو ينصت المستمع، فإنه يخرج – ولو لحظة – من أسر الرغبة، ويشهد الوجود من زاوية لا مكان فيها للألم أو النقص.
أما الفنون البصرية، فهي تُمكّن الإنسان من أن يرى الطبيعة والعالم لا بوصفه مستخدمًا أو كائنًا راغبًا، بل كمتأملٍ محايد، ينظر دون أن يشتهي، ويُصغي دون أن يطلب، في هذه الحالة، يُعلَّق عمل الإرادة مؤقتًا، ويغدو الإنسان، للحظة، كائنًا نقيًّا خارج الدافع.
لكن هذا الخلاص الجمالي، رغم عمقه، يظل مؤقتًا وزائلًا، إذ سرعان ما تعود الإرادة لتفرض وجودها. ولهذا، فإن شوبنهاور لا يكتفي بالفن كمهرب، بل يُمهّد للفصل الأخير من فلسفته، حيث يدعو إلى نوع من التحرر الروحي العميق، يقوم على إنكار الإرادة ذاتها من خلال الزهد والتأمل، على نحوٍ يقترب من الرؤية البوذية.
4. الخلاص من الإرادة: طريق الزهد والفناء
إذا كانت الإرادة، في جوهرها، هي أصل كل شقاء، فإن أعظم ما يمكن للإنسان أن يبلغه، في نظر شوبنهاور، ليس تحقيق رغباته – فذلك لا يزيده إلا ظمأ – بل التحرر من الرغبة ذاتها. وهذا لا يتم إلا من خلال الزهد، والانفصال عن الحياة الحسية، والسعي نحو إخماد جذوة الإرادة في النفس.
في هذا السياق، يتقاطع شوبنهاور بشكل عميق مع التعاليم البوذية والهندية، التي ترى أن التعلّق هو سبب المعاناة، وأن الخلاص لا يكون إلا بالتحرر من التعلّق بكل ما هو فانٍ. لكن فلسفته ليست دعوة دينية أو وعظية، بل تأمّل وجودي في إمكانية إيقاف آلة الإرادة، ولو إلى حين.
الزاهد، في فلسفة شوبنهاور، هو من كسر طوق الإرادة. لم يعد يرغب في النجاح أو المتعة أو التملّك. لم يعد يطلب من العالم شيئًا. بل ينظر إليه بنظرة هادئة، متأملة، خالية من التوق. إنه ليس في صراع مع الإرادة فحسب، بل في حالة انسحاب هادئ منها.
وهكذا يتحوّل الزهد إلى قوة سلبية عظمى، لا بمعنى الضعف، بل بمعنى القدرة على مقاومة أشد الدوافع عمقًا في الكائن الحي: الرغبة في الحياة. ولذلك فإن هذا الزهد – على عكس التصوّر الشائع – ليس هروبًا، بل أسمى أشكال المقاومة.
أما الموت، فلا يراه شوبنهاور خلاصًا بحد ذاته، لأنه ما دام الكائن لم يُنكر الإرادة أثناء حياته، فإن الموت لن يكون إلا استمرارًا للدورة نفسها في هيئة أخرى، وحدهم أولئك الذين بلغوا الفناء الرمزي – فناء الرغبة، فناء التعلّق، فناء "الأنا" – هم من يقتربون من التحرر الحقيقي.
إنه خلاص بلا نصر، وسكينة بلا أمل. لكنه، رغم كل شيء، يظل – في نظر شوبنهاور – أسمى ما يمكن للفكر البشري أن يبلغه في هذا العالم المتقلب، الخاضع لإرادة لا عقلانية، لا هدف لها، ولا نهاية.
ترجمة تُعيد الروح إلى النص الأصلي
كان من المدهش أن يبقى هذا العمل الجذري غائبًا عن اللغة العربية قرابة قرنين، رغم شهرته بين أوساط الفلاسفة الغربيين وتأثيره الكبير على مفكرين أمثال نيتشه، تولستوي، فرويد، وتوماس مان.
والفضل في ظهوره العربي الكامل يعود إلى الدكتور سعيد توفيق، الذي خاض معركة الترجمة على مدى سبعة عشر عامًا، لم يكتفِ فيها بنقل المعنى، بل عايش النص كما يعايش الفيلسوف فكرته.
توفيق، العارف العميق بفلسفة شوبنهاور، منح الترجمة حياة ثانية؛ لغة فصيحة، رصينة، ووافية، لم تقع في فخ الترجمة الحرفية، بل استحضرت روح المؤلف، وشرحت المصطلحات، وربطت بينها وبين السياق الثقافي العربي.
إنها ليست ترجمة أكاديمية فقط، بل عمل تفسيري تأويلي، كتبه مترجم فيلسوف، ملمّ باللغات والفكر والجمال، وهذا ما يجعل القراءة في هذا النص رحلة مزدوجة: نحو عالم شوبنهاور، ونحو تفاعل عربي حقيقي مع هذا العالم.
أهمية الكتاب في السياق العربي
نحن اليوم أحوج ما نكون إلى كتاب العالم إرادة وتمثّلاً، لا فقط لأننا نفتقر إلى ترجمات محكمة للنصوص التأسيسية، بل لأننا نعيش، على مستوى الثقافة، حالة من التيه الوجودي الذي تلمسه فلسفة شوبنهاور من الجذور، فالعالم كما يصوّره ليس "حديقة أفكار"، بل صراع شرس بين الكائن وذاته، بين الرغبة والإشباع، بين الوعي والتفاهة. وهي كلها قضايا تُحاكي واقع الإنسان المعاصر، سواء في الغرب أو في عالمنا العربي.
إن تأملات شوبنهاور حول الألم، الرغبة، الجمال، والانعتاق من الإرادة، ليست أفكارًا ميتافيزيقية باردة، بل صرخات فلسفية تلامس جوهر المعاناة الإنسانية، وتمنح القارئ قدرة نادرة على النظر إلى ذاته وعالمه من علٍ.
اقتباسات من الكتاب
إليك مجموعة مختارة من أبرز اقتباسات كتاب العالم إرادة وتمثّلاً للفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور، والتي تعكس عمق رؤيته الفلسفية وتشاؤمه الوجودي، كما وردت في الترجمة العربية للدكتور سعيد توفيق:
1. "العالم هو تمثّلي"
هي الجملة الافتتاحية الشهيرة في كتاب العالم إرادة وتمثّلاً، يضع بها شوبنهاور حجر الأساس لرؤيته، مؤكدًا أن الواقع الذي ندركه ليس إلا صورة في وعينا، لا حقيقة مطلقة خارجه.
2. "الحياة تتأرجح، كرقاص الساعة، بين الألم والملل."
يعبّر بها عن تشاؤمه العميق، حيث يرى أن الإنسان إمّا يعاني من غياب ما يشتهي، أو يشعر بالفراغ عندما يُشبع رغباته.
3. "الإرادة هي جوهر كل شيء، هي الشيء في ذاته."
يرى شوبنهاور أن الإرادة – وليس العقل أو المادة – هي القوة المحركة للوجود، لكنها إرادة عمياء لا غاية لها.
4. "الفن هو طريق التحرر المؤقت من قبضة الإرادة."
يشير إلى أن الفن، والموسيقى على وجه الخصوص، تتيح للإنسان أن يسمو فوق معاناته، ويتحرر لحظة من سطوة الرغبة والقلق.
5. "كل رغبة تنبع من نقص، ومن ثم فهي ألم."
يُرسّخ فلسفته بأن الرغبة لا تنبع من الامتلاء بل من النقص، وبالتالي فهي أساس المعاناة الإنسانية.
6. "لا يمكن تحقيق السعادة الحقيقية، لأن وجودها مرهون بزوال الإرادة، وزوال الإرادة لا يكون إلا بالزهد والانطفاء."
يطرح هنا رؤيته للخلاص التي تأثرت بالبوذية، والتي ترى أن الحل هو في كبح الإرادة وإطفاء جذوتها.
7. "الحب ليس إلا حيلة من الإرادة لبقاء النوع."
نظرة شديدة الواقعية (أو القسوة) للعاطفة، حيث يعتبر أن الحب ليس سوى آلية بيولوجية خاضعة لقانون الإرادة اللاواعية.
8. "كل حياة فردية إنما هي حلم قصير في ضمير الوجود."
ينظر إلى الحياة الفردية كظاهرة عابرة لا وزن لها في خضم
الإرادة الكونية اللاشخصية.
ختامًا؛ كتاب العالم إرادة وتمثّلاً ليس كتابًا يُقرأ لمجرد الاطلاع، بل كتاب يُعاش. كتاب يفجّر في القارئ أسئلة لا تنتهي، عن ماهية الوجود، عن المصير، عن الجمال، عن الحريّة، وعن الألم الذي يشكّل قوام الحياة، بترجمة سعيد توفيق، أصبح هذا العمل الجبار جزءًا من الثقافة العربية، لا كمجرد "نصّ مترجم"، بل كإضافة نوعية إلى مكتبة الفكر العربي الحديث، هو دعوة لإعادة بناء وعينا، لا على أوهام الإرادة، بل على فهم عميق لها. ومن هنا، فإن الاحتفاء بهذا العمل ليس ترفًا ثقافيًا، بل واجبٌ معرفة تجاه الفلسفة، وتجاه القارئ العربي الذي طال انتظاره لمثل هذه الكتب.
اقرأ أيضاً:
- سعيد توفيق: قضيت 17 عاما من عمري في ترجمة "العالم إرادة وتمثلا " لـ شوبنهارو
- تحميل وقراءة كتاب العالم إرادةً وتمثلاً
- فيلم "كان يا ما كان في غزة" يقتنص جائزة "نظرة ما" لأفضل مخرج في مهرجان كان 2025
- الفقراء – صرخة دوستويفسكي الأولى في وجه العالم