تمرّ اليوم الذكرى الخامسة على رحيل أحد أعظم مبدعي مصر والعالم العربي، الدكتور نبيل فاروق، الظاهرة الثقافية المتكاملة، والصوت الجديد الذي هزّ الساحة الأدبية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.
![]() |
| نبيل فاروق |
جاء نبيل فاروق في زمن كانت الرواية العربية فيه محصورة بين الواقعية والرومانسية والأدب الاجتماعي، ليقدّم لجيل كامل تجربة مختلفة، تمزج بين الخيال العلمي والإثارة والبطولة، وتفتح أبوابًا جديدة لم تُطرق من قبل في الأدب المصري والعربي.
بخياله الجامح، ورؤيته العلمية المتقدمة، وأسلوبه السلس، نجح فاروق في خلق عالم جديد جذب الشباب إلى القراءة، حتى صاروا يقفون في طوابير لشراء أحدث إصداراته، وأوجد علاقة فريدة بين القرّاء والكتب في وقت كانت فيه الثقافة الورقية تتراجع أمام شاشات التلفاز.
نجح فاروق في إعادة تعريف الأدب الموجّه للشباب، وترك أثرًا لا يُمحى في وجدان ملايين القرّاء، فمن خلال كتاباته السريعة والمشحونة بالإثارة والملاحقات والمفاجآت، أسس نبيل فاروق نهضة "أدب الجيب" وجعله تيارًا جماهيريًا حقيقيًا، في وقت كان كثير من الناشرين يعتقدون أن القراء العرب لا ينجذبون إلا إلى الأدب الكلاسيكي أو الرومانسي.
كان نبيل فاروق هو البوابة التي عبر منها ملايين الشباب إلى عالم القراءة، حتى صارت كتبه جزءًا لا يتجزأ من ذاكرة جيل كامل.
من طنطا إلى كلية الطب
وُلد نبيل فاروق رمضان بيومي في 9 فبراير 1956 بمدينة طنطا التابعة لمحافظة الغربية، نشأ في كنف عائلة مصرية متوسطة الحال، ساد جوُّها العام تقديرٌ عميق للعلم والثقافة، وهو ما هيّأ له المناخ المثالي لاكتشاف شغفه المبكر، لم يكن نبيل فاروق طفلاً تقليديًا؛ فقد كان نهمًا للقراءة منذ سنواته الأولى، يلتهم القصص والمجلات المصورة (الكوميكس) والروايات العالمية المترجمة، كما أظهر مواهب متعددة شملت الرسم وممارسة الرياضة، حيث كان لاعباً مميزاً في تنس الطاولة.
التحق بعد إتمام دراسته الثانوية بـ كلية الطب بجامعة طنطا، نزولاً عند رغبة العائلة وتماشيًا مع تفوقه الدراسي، ليحصل على بكالوريوس الطب والجراحة عام 1980م، ورغم صعوبة الدراسة الطبية وضغطها، لم يتخلَّ عن قلمه؛ بل كانت تلك المرحلة هي المختبر الحقيقي لموهبته.
خلال سنوات الجامعة، وتحديداً في عام 1979 (قبل تخرجه بعام واحد)، حدثت نقطة التحول الكبرى في مسيرته؛ حين شارك في مسابقة أدبية نظمها قصر ثقافة طنطا بقصة خيال علمي بعنوان "النبوءة".
نالت القصة إعجاب لجنة التحكيم وحصدت الجائزة الأولى، وتجدر الإشارة إلى أن هذه القصة ذاتها نُشرت لاحقًا باعتبارها العدد الأول من سلسلة "كوكتيل 2000"، مما يثبت أن مشروعه الأدبي كان ناضجاً في ذهنه وهو لا يزال طالباً على مقاعد الدراسة.
عقب تخرجه، تم تعيينه طبيبًا في الوحدات الريفية، وتحديداً في قرية "أبو دياب" بمحافظة قنا في صعيد مصر، وكانت هذه الفترة، بما فيها من هدوء وعزلة بعيداً عن صخب المدينة، بمثابة "الخلوة الإبداعية" التي أتاحت له التفرغ الذهني لصياغة وتطوير ملامح أبطاله الخياليين الذين سيغيرون وجه الأدب العربي لاحقًا، وعلى رأسهم أدهم صبري.
الاهتمامات المبكرة
لم تكن اهتمامات نبيل فاروق في طفولته وصباة أحادية الجانب، بل اتسمت بتنوع مدهش جمع بين الفن والعلم والرياضة، كان شغفه بالقراءة هو المحرك الأول لخياله، حيث وجد في مكتبة المدرسة ثم في مكتبة قصر ثقافة طنطا ملاذاً يومياً ينهل منه المعارف، مُطلعاً على روائع الأدب العالمي والموسوعات العلمية، مما شكل لديه مخزوناً ثقافياً ضخماً في سن مبكرة.
وإلى جانب الكلمة المكتوبة، امتلك موهبة الرسم، التي ساعدته لاحقاً على تخيل المشاهد السينمائية الدقيقة في رواياته ووصفها ببراعة بصرية فائقة، كما كان ولعه بالعلوم واضحاً، وهو ما مهد الطريق لتوجهه نحو دراسة الطب وكتابة الخيال العلمي بتمكن.
وعلى الصعيد البدني، لم يكن نبيل فاروق بعيداً عن الرياضة؛ فقد برع بشكل خاص في رياضة تنس الطاولة، التي تتطلب سرعة بديهة وتركيزاً عالياً، وهي صفات انعكست لاحقاً على إيقاع السرد السريع والمثير في كتاباته البوليسية.
الطب والكتابة
شكّلت الخلفية الأكاديمية للدكتور نبيل فاروق كطبيب بشري ركيزة أساسية في منهجه الأدبي. فدراسة الطب لم تكن محطة عابرة في حياته، بل مدرسة صقلت أدواته الكتابية ومنحته نظرة تحليلية دقيقة انعكست بوضوح على أعماله الشهيرة مثل رجل المستحيل وملف المستقبل.
وقد تجلّى أثر هذه الخلفية في أربعة محاور رئيسية ميّزت أسلوبه:
أولًا - الدقة العلمية: كان نبيل فاروق يحرص على تضمين رواياته معلومات طبية وبيولوجية وفيزيائية دقيقة، مما منح نصوصه مصداقية عالية حتى في أكثر أحداثها خيالاً.
ثانيًا - الفهم العميق للتشريح ووظائف الجسم: مكّنته دراسته الطبية من وصف الإصابات وردود أفعال الجسم والعمليات البيولوجية المعقدة بأسلوب واقعي ومقنع، سواء عند الحديث عن آثار السموم أو القدرات غير الاعتيادية للأبطال.
ثالثًا - المنهج العلمي في بناء الحبكة: طبّق فاروق منطق الطبيب في التشخيص - البحث عن الأسباب والنتائج - على كتاباته البوليسية والجاسوسية، فجاءت الأحداث متسلسلة بإحكام بعيدًا عن المصادفات المفتعلة.
رابعًا - بناء فرضيات علمية معقولة: في أدب الخيال العلمي، لم تكن تقنياته المستقبلية محض أوهام، بل كانت مبنية على أسس علمية قائمة أو محتملة، ما منح القارئ إحساسًا بأن ما يقرأه قد يصبح حقيقة قريبة، خاصة في مجالات الجينات والطب الحديث.
وبهذا استطاع نبيل فاروق أن يمزج عباءة الطبيب بقلم الأديب، مقدّمًا للقارئ العربي مزيجًا فريدًا من الإثارة والمعرفة في آن واحد.
الجائزة الأولى وبداية المسيرة
وكأن القدر كان يكتب أولى سطور مسيرته الأدبية بالتوازي مع دراسته للطب، ففي عام 1979، وقبل عام واحد من تخرجه من كلية الطب بجامعة طنطا، حصل نبيل فاروق على الجائزة الأولى من قصر ثقافة طنطا عن قصته "النبوءة".
مثلّت هذه القصة الشرارة التي أطلقت مسيرته الأدبية، إذ تحولت لاحقًا إلى العدد الأول من سلسلة "كوكتيل 2000"، التي مهدت الطريق أمام ظهور أعماله الكبرى، بما في ذلك سلسلة "ملف المستقبل"، وقد أكّد هذا الفوز المبكر على موهبته الفذة ورسم ملامح توجهه نحو أدب الخيال العلمي والإثارة.
الانطلاقة الكبرى: المؤسسة العربية الحديثة
لم يكن عام 1984 عامًا عاديًا في حياة نبيل فاروق، بل كان نقطة انعطاف حاسمة غيّرت مسار مستقبله الأدبي، وربما مستقبل القراءة لدى جيل كامل، ففي ذلك العام، حمل الشاب الطبيب - الذي لم يتخرّج بعد من الدورة التدريبية الطبية - حقيبة أوراقه وتوجّه إلى المؤسسة العربية الحديثة بالقاهرة، وهو لا يعرف أن هذه الخطوة ستصبح بوابة أسطورية لشهرة غير مسبوقة لكاتب عربي.
هناك التقى بالناشر الراحل حمدي مصطفى، الرجل الذي امتلك حدسًا استثنائيًا، وراهَن على كتّاب شباب في الوقت الذي كان النشر التقليدي لا يلتفت إلا للأسماء الكبيرة الراسخة.
قدّم نبيل فاروق للناشر رواية خيال علمي قصيرة كتبها حديثًا بعنوان "أشعة الموت"، كان الخيال العلمي، في ذلك الوقت، نوعًا شبه غائب تمامًا عن المكتبة العربية، ولم يكن يُنظر إليه كأدب "جذاب" للقارئ العربي.
لكن حمدي مصطفى، بعين الناشر المخضرم، لمح في النص شيئًا مختلفًا: لغة سريعة، وتدفقًا دراميًا، وموهبة قصصية خام تحتاج فقط إلى منصة تُطلقها للعلن.
كان القرار جريئًا من الطرفين:
- شاب يافع يصرّ على أدب غير مألوف.
- وناشر يخاطر بإنتاج سلسلة على ذائقة غير مُجرّبة.
لكن هذا الرهان المشترك لم ينجح فقط بل غيّر خريطة القراءة العربية من جذورها.
ما هي "أشعة الموت"
«أشعة الموت» هي أولى روايات الكاتب نبيل فاروق التي نُشرت، وتعتبر بداية سلسلة ملف المستقبل.
القصة تدور حول «سرّ سلاح أشعة» سلاح متقدم وخطير، انكشف أن عصابة مرعبة حصلت عليه، ثم يُكلَّف بطل الرواية ( ضابط جديد يُدعى «نور ») بمهمة صعبة: العثور على أفراد العصابة قبل أن يستخدموا هذا السلاح لدمار كبير.
"أشعة الموت" – بحسب المتابعين – تمثل مزيجًا من الخيال العلمي، من جهة، والإثارة والمغامرة البوليسية من جهة أخرى.
الرواية نُشرت لأول مرة عام 1985 تقريبًا (بعد فوزها في مسابقة للمؤسسة العربية الحديثة) باعتبارها العدد الأول من ملف المستقبل.
لماذا "أشعة الموت" كانت نقطة تحول: كيف ساهمت في انتشار أدب الخيال العلمي
قبل نشر "أشعة الموت"، كان أدب الخيال العلمي عربيًا شبه مهجور، لم يكن هناك مشروع جاد ينشر قصص خيال علمي مكتوبة بالعربية ويروّج لها على نطاق واسع، لذلك كان دخول نبيل فاروق بهذا النوع شكّل «منعرجًا هامًا» في تاريخ الأدب الشعبي في مصر والعالم العربي.
نجاح "أشعة الموت" وفكرة سلسلة «ملف المستقبل» أثبتت أن هناك جمهورًا عربيًا كبيرًا - الشباب تحديدًا - مستعد لاحتضان الخيال العلمي، إذا قُرِّر عرضه بطريقة جذابة وسلسة، هذا شجّع على نشر المزيد من القصص الخيالية، وفتح الباب أمام كتاب عرب آخرين للمحاولة.
مشروع السلسلة - بأسلوب "رواية الجيب" (روايات صغيرة الحجم، سريعة التناول، بأسعار مناسبة) - ساعد على جعل الخيال العلمي في متناول الطبقات الواسعة من القرّاء، وليس لفئة نخبوية فقط، بذلك أتاح "ثقافة الخيال العلمي الشعبية" في العالم العربي. هذا التوزيع الواسع كان حاسمًا في بناء جمهور كبير.
بفضل "أشعة الموت" و"ملف المستقبل"، أصبح الخيال العلمي - وغالبًا مدموجًا بالإثارة والتشويق - جزءًا من خزانة القراءة اليومية للمراهقين والشباب، بدل أن يكون غريبًا وغير مألوف، وهكذا غيّر ذائقة القراءة، وساهم في استمرار الكتابة في هذا اللون الأدبي.
لماذا نعتبر "أشعة الموت" حجر أساس
"أشعة الموت" لـ نبيل فاروق هي أول محاولة فعالة لإدخال الخيال العلمي بأسلوب عربي إلى الجمهور الواسع، في زمن كان فيه هذا اللون شبه مفقود، النجاح الذي حققته أعطى الضوء الأخضر لـ "روايات مصرية للجيب" لاستثمار الخيال العلمي، وفتحت الباب أمام جيل من القرّاء أن يحلم بالمستقبل، العلم، المغامرة - بلغتهم، وبأسلوب قريب إلى القلب.
تأسيس مشروع "روايات مصرية للجيب"
مع نجاح التجربة الأولى، اتّسعت الرؤية لدى المؤسسة العربية الحديثة. أدرك حمدي مصطفى أن نبيل فاروق يمتلك القدرة على إطلاق مشروع جديد بالكامل، يقوم على:
- سلاسل فنية قصيرة.
- أسعار زهيدة في متناول الشباب.
- توزيع واسع في كل محافظات مصر والعالم العربي.
- أسلوب مشوق يخاطب القارئ من أول صفحة.
ومن هنا وُلدت فكرة "روايات مصرية للجيب"، المشروع الذي سيصبح خلال سنوات قليلة المنصة الأكبر والأهم في العالم العربي للأدب الشبابي، البوليسي والخيال العلمي والمغامرات.
بدأ المشروع بثلاث سلاسل رئيسية:
1. ملف المستقبل
تُعد سلسلة «ملف المستقبل» لـ نبيل فاروق علامة فارقة في تاريخ الأدب الشعبي العربي، وأحد أوائل المشاريع السردية التي قدّمت الخيال العلمي بصورة منتظمة ومبسّطة إلى الجمهور الواسع، لا سيما فئة المراهقين والشباب، إذ انطلقت نبيل فاروق من خلالها أن يقدّم نموذجًا عربي الهوية للخيال العلمي، يجمع بين المغامرة والتشويق من جهة، وبين المفاهيم المستقبلية والتقنية من جهة أخرى.
تميّزت السلسلة بابتكار عالم متكامل تتصدّره «إدارة المخابرات العلمية»، وشخصيات محبوبة مثل: نور – سلوى – محمود – رمزي، وهي شخصيات أصبحت جزءًا من ذاكرة القراءة لدى جيل كامل. من خلال هذه الشخصيات، تناولت الروايات موضوعات علمية كانت نادرة في الأدب العربي آنذاك: الذكاء الاصطناعي، الطاقة المتقدمة، السفر عبر الزمن، الغزو الفضائي، الجينات، الكائنات المتطورة، والتقنيات المستقبلية. ورغم بساطة الطرح أحيانًا، فإن السلسلة فتحت الباب أمام تساؤلات علمية وفلسفية لم تكن مألوفة لدى القارئ العربي الشاب.
لقد رسّخت ملف المستقبل ثقافة علمية مبكرة لدى آلاف الشباب، إذ كانت — بالنسبة لجيل الثمانينيات والتسعينيات وبداية الألفية — نافذة يومية على العلم والمستقبل، وسببًا مباشرًا في اتساع الخيال، وازدياد الشغف بالتكنولوجيا، وحتى دخول كثيرين مجالات مثل: الهندسة، والبحث العلمي، والبرمجة، والفيزياء. كما لعبت دورًا محوريًا في جعل الخيال العلمي جزءًا من “الثقافة الشعبية” بعد أن كان محصورًا في الكتب الأكاديمية أو الترجمات النادرة.
ورغم أن السرد اتخذ طابعًا ترفيهيًا يعتمد على الحركة والإثارة، فإن الأثر الثقافي والتربوي للسلسلة كان واسعًا؛ فقد أسست لوعي جديد بأن العلم ليس مادة دراسية فقط، بل مادة للحكاية، للخيال، ولتصوّر المستقبل. ومع أكثر من 160 عددًا، استطاعت السلسلة أن تبني علاقة طويلة المدى مع جمهورها، وأن تحظى بمكانة خاصة في ذاكرة الأدب العربي الحديث باعتبارها أوسع مشروع للخيال العلمي الشبابي في العالم العربي وأكثره تأثيرًا وانتشارًا.
2. رجل المستحيل
تُعدّ سلسلة «رجل المستحيل» لـ نبيل فاروق علامة فارقة في تاريخ الأدب البوليسي العربي، وواحدة من أكثر السلاسل انتشارًا وتأثيرًا منذ صدورها عام 1984 عن المؤسسة العربية الحديثة.
ابتكر د. نبيل فاروق شخصية أدهم صبري بوصفه ضابطًا فائق المهارة في جهاز مخابرات مصري، لكنه حرص – على خلاف أدب الجاسوسية الغربي – على تقديم نموذج واقعي يحترم بنية الأجهزة الأمنية المصرية، ويتجنب المبالغات الخارقة التي تُخرِج الشخصية عن إطار المصداقية.
وقد استلهم الكاتب ملامح المهارات والتقنيات من مصادر متعددة، منها قراءات في تاريخ الاستخبارات العالمية، وتجارب واقعية لدول مختلفة، مع التزام واضح بعدم كشف أي أسرار أو معلومات حساسة.
هذا التوازن بين الواقعية والدرامية أكسب السلسلة قبولًا واسعًا لدى القرّاء والنقاد، إذ رأت فيها الأوساط الثقافية محاولة جادة لتقديم بطل عربي معاصر يتمتع بالأخلاق والانضباط والذكاء، بعيدًا عن صورة العميل الفرداني المتحرّر من القيم كما في مدارس الجاسوسية الغربية.
وقد لعبت «رجل المستحيل» دورًا محوريًا في إعادة تشكيل علاقة الشباب العربي بالأدب البوليسي، فوفّرت نموذجًا محليًّا جذابًا، وأسهمت في ترسيخ عادة القراءة لدى جيل الثمانينيات والتسعينيات، حتى أصبحت إحدى أكثر السلاسل مبيعًا في العالم العربي، ومرجعًا تأسيسيًا لكُتّاب البوليسي المعاصرين.
3. كوكتيل 2000
مثّلت سلسلة «كوكتيل 2000» المشروع الأدبي الأكثر تنوّعًا لدى د. نبيل فاروق، إذ قدّم من خلالها مساحة مفتوحة لا تقيّده بقوالب الخيال العلمي أو الأدب البوليسي فقط، بل أتاحت له مزج الخيال، والدراما النفسية، والقصص الإنسانية، والفانتازيا، والمغامرات القصيرة في بوتقة واحدة.
ظهرت السلسلة عام 1992، وجاء اسمها ليعكس طبيعتها المركّبة: خليط من موضوعات وأفكار وتجارب سردية لا يجمع بينها سوى رغبة الكاتب في استكشاف حدود جديدة للكتابة العربية الموجّهة للشباب.
تميّزت السلسلة بقدرتها على ملامسة جوانب إنسانية عميقة؛ فقد تناولت قضايا مثل الخوف، الحب، الصداقة، الندم، معنى القدَر، وتأملات الذات، إلى جانب تجارب فكرية حول المستقبل والوعي والعدالة.
كما قدّمت شخصيات مستقلة وأحداثًا مكتملة في كل عدد، مما جعلها مساحة تجريبية سمحت للكاتب بتطوير أدواته السردية خارج القيود التقليدية.
وقد اعتُبرت «كوكتيل 2000» جسرًا مهمًا ربط بين قرّاء «رجل المستحيل» و«ملف المستقبل»، إذ جمعت جمهور السلاسل المختلفة في عمل واحد، وأسهمت في ترسيخ مكانة نبيل فاروق ككاتب يمتلك قدرة فريدة على مخاطبة عقل القارئ وخياله ومشاعره في آن واحد، بهذا أصبحت السلسلة إحدى أشهر المنصّات الأدبية التي شكّلت الذائقة القرائية لجيل التسعينيات وبداية الألفية.
ثم تبعتها لاحقًا سلاسل أخرى وكتّاب آخرون، حتى أصبحت روايات مصرية للجيب ظاهرة ثقافية كاملة لا تُقاس بعدد النسخ فقط، بل بتأثيرها على تشكيل الخيال والوعي والقراءة لدى جيل كامل في مصر والعالم العربي.
التأثير والانتشار الواسع
ما إن بدأ نبيل فاروق بخطوته الموفقة مع المؤسسة العربية الحديثة في عام 1984، حتى تحوّل مشروعه خلال عقد واحد إلى:
- أكبر مشروع أدبي شبابي في الشرق الأوسط.
- ملايين النسخ المباعة.
- أجيال كاملة تعلّمت حب القراءة عبر هذه السلاسل.
- تأسيس ثقافة جديدة بالكامل: ثقافة “الجيب” السهلة، الرشيقة، السريعة، والقريبة من نبض الشباب.
نبيل فاروق كان بالفعل ظاهرة ثقافية نجحت لأنها التقت بحدس ناشر آمن بموهبة استثنائية، ولأن كاتبًا شابًا لم يخَفْ من اقتحام مجال لم يطرقه أحد قبله.
الثنائي الذهبي: نبيل فاروق × أحمد خالد توفيق
بعد سنوات قليلة من انطلاق مشروع "المكتب" في المؤسسة العربية الحديثة، انضم د. أحمد خالد توفيق إلى هذا العالم الذي كان نبيل فاروق قد بدأ في رسم ملامحه. وبهذا اللقاء، تشكل أحد أهم الثنائيات في تاريخ الأدب العربي المعاصر.
كان نبيل فاروق رائد أدب الخيال العلمي والجاسوسية، بعوالمه المستقبلية وصراعاته المخابراتية التي صاغها بمنهج الطبيب وتحليل الكاتب. وفي المقابل، كان أحمد خالد توفيق رائد أدب الرعب والفانتازيا، بصوته الساخر العميق، وقدرته الفريدة على بناء عوالم نفسية معقدة ولغة قريبة من القارئ.
هذا التنوع بينهما لم يكن تنافسًا، بل تكاملاً خلق جيلًا كاملًا من القرّاء. فقدّم فاروق للأجيال صور البطل القادر، والعلم المدهش، والمستقبل الذي يُصنع بالمعرفة، بينما قدم توفيق الإنسان الضعيف الباحث عن معنى، والخوف المخبوء خلف تفاصيل الحياة اليومية، والسخرية التي تكشف هشاشة العالم.
معًا، أحدث الاثنان ثورة قرائية في التسعينيات وبداية الألفية، وصنعا قاعدة جماهيرية ستظل تُذكر لعقود. كانت أعمالهما تُتداول بين الطلاب في المدارس والجامعات، وتُقرأ في الأتوبيسات وبجوار الشمسية على الشاطئ، وتُناقش في غرف المراهقين كما لو كانت أحداثها جزءًا من واقعهم.
وبذلك أصبح الثنائي - كلٌ بأسلوبه ومدرسته - علامة فارقة في تشكيل وجدان جيل كامل، وسببًا رئيسيًا في عودة الثقافة الورقية إلى قلب الشباب العربي.
الأعمال الأيقونية: حجر الزاوية في مسيرته
أسطورة أدهم صبري
ظهرت شخصية أدهم صبري لتصبح واحدة من أشهر أيقونات الأدب البوليسي العربي، فهو الضابط المصري فائق المهارة، الذي يجيد عدة لغات، ويتقن فنون القتال اليدوي والرماية والعمل الاستخباراتي، ويتميز بسرعة بديهة مذهلة وقدرة استثنائية على التحمل والمناورة، ورغم هذه القدرات الخارقة، ظل أدهم نموذجًا للبطل المحافظ على القيم، إذ:
- لا يشرب الخمر
- لا يقيم علاقات خارج إطار الأخلاق
- لا يقتل إلا للضرورة القصوى
هذا المزيج بين القوة والانضباط الأخلاقي منح الشخصية طابعًا فريدًا جعلها قريبة من وجدان القارئ العربي، الذي وجد أخيرًا بطلًا يشبهه ويعبّر عنه دون أن يفقد جاذبية الأبطال العالميين.
وهكذا، صارت سلسلة "رجل المستحيل" رمزًا للبطولة والشهامة، ونافست بقوة شخصيات غربية شهيرة مثل جيمس بوند، ولكن بروح عربية خالصة.
تأثير السلسلة
ساهمت شخصية أدهم صبري في تشكيل وعي جيل كامل من القرّاء، وتمثّل تأثيرها في عدة جوانب:
- بثّ روح الوطنية والانتماء لدى الشباب: من خلال تقديم بطل يعمل في خدمة بلده ويحمي مصالحها دون ضجيج أو ادعاء.
- منح صورة مشرّفة للمخابرات المصرية: إذ قدّمت السلسلة الجهاز بصورة احترافية وإنسانية في الوقت نفسه، وأبرزت دوره الحقيقي في حماية الأمن القومي.
- تقديم مغامرات ذات إيقاع سينمائي سريع: بأسلوب مشوّق يعتمد على المطاردات، والتمويه، والتكنولوجيا، مما جعل القارئ يعيش الأحداث كما لو كانت فيلمًا يُعرض أمامه.
بهذا، لم تكن "رجل المستحيل" مجرد سلسلة كتب، بل كانت ظاهرة ثقافية صنعت بطلاً عربيًا خالدًا في ذاكرة أجيال كاملة.
سلسلة: نور الدين محمود وفريقه
إن كانت رجل المستحيل هي بوابة الأكشن والإثارة، فإن ملف المستقبل كانت بلا شك بوابة الخيال العلمي الحقيقي في الأدب العربي، فمن خلال هذه السلسلة، فتح نبيل فاروق نافذة واسعة على عالم الغد، ونجح في استشراف مستقبل العلم والتكنولوجيا بطريقة سبقت عصرها بسنوات طويلة.
كتب فاروق عن موضوعات كانت آنذاك تبدو ضربًا من الخيال، مثل:
- الذكاء الاصطناعي
- الاستنساخ والهندسة الوراثية
- المركبات والسفن الفضائية
- الطاقة النووية ومصادر الطاقة المتجددة
- الأسلحة المتطورة وتكنولوجيا الدفاع
- الشاشات اللمسية
- الاتصالات المحمولة
واللافت أن كثيرًا مما تناوله في هذه السلسلة تحقق بالفعل بعد عقود، مما جعل قراء ملف المستقبل يشعرون بأنهم عاشوا بعض المخترعات الحديثة قبل ظهورها في الواقع.
أما فريق نور الدين محمود، ذلك الفريق العلمي والاستخباراتي المتكامل، فكان تجسيدًا لفكرة محورية عبّر عنها نبيل فاروق مرارًا:
"العلم هو السلاح الحقيقي للمستقبل."
فبدلاً من القوة الجسدية أو العنف، قدّم الفريق نموذجًا لبطل يعتمد على المعرفة، والبحث، والتحليل، والتقنيات المتقدمة، وقد رسخت السلسلة لدى جيل كامل قناعة بأن المستقبل يصنعه العلماء، وأن التفوق الحقيقي يبدأ من العقل.
وبهذا أصبحت ملف المستقبل ليس مجرد خيال علمي، بل مشروعًا تثقيفيًا مبكرًا صاغ علاقة الشباب بالعلوم والمعرفة، وفتح أفقًا جديدًا للأدب العربي.
السمات الفنية في أسلوب نبيل فاروق
1. اللغة: اعتمد على الفصحى المبسطة "السهل الممتنع" التي جعلت القراءة ممكنة حتى لمن لم يعتد القراءة.
2. الإيقاع: سرد سريع بلا حشو، أشبه بلقطات سينمائية متتابعة.
3. المعلومة: كانت رواياته “تُثقف دون أن تُعلِّم”، إذ يقدّم معلومات علمية وسياسية داخل القصة بذكاء غير مباشر.
4. الحبكة: نهايات مفاجئة… التواءة درامية… ولحظات ذروة محسوبة.
ما بعد روايات الجيب: الدراما والصحافة
السيناريو والدراما
كتب نبيل فاروق عدة أعمال درامية، أبرزها:
- مسلسل العميل 1001 بطولة مصطفى شعبان
- مسلسلات إذاعية ناجحة
- سيناريوهات لقصص بوليسية وتاريخية
الكتابة الصحفية
كتب مقالات سياسية واجتماعية، اتسمت بالتحليل المنطقي واللغة الرشيقة.
الروايات الطويلة
في سنواته الأخيرة، اتجه لكتابة روايات طويلة خارج إطار الجيب، منها روايات بوليسية وتاريخية واجتماعية.
الإرث والتأثير: جيل نبيل فاروق
1. صناعة القارئ: ربما كان أعظم إنجاز لنبيل فاروق أنه صنع ملايين القراء العرب، فمن خلاله:
- دخل الشباب عالم القراءة
- انتقلوا بعدها للأدب العالمي
- تشكلت لديهم ذائقة أدبية حقيقية
2. القيم: رسخت أعماله قيمًا مثل:
- الذكاء
- الانضباط
- البطولة
- التضحية
- العمل الجماعي
- العلم
3. الرد على النقد الأدبي: رغم أن بعض النقاد وصفوا أدبه بأنه "خفيف" أو "تجاري"، إلا أن الواقع يقول إنه كان أدبًا تأسيسيًا فتح الباب أمام ملايين العقول.
رحيل نبيل فاروق
رحل الدكتور نبيل فاروق في 9 ديسمبر 2020 إثر أزمة قلبية مفاجئة، تاركًا خلفه فراغًا كبيرًا في قلوب القراء ومحبيه.
نعاه المثقفون والفنانون وقرّاؤه الذين اعتبروه جزءًا من طفولتهم وشبابهم وذكرياتهم الجميلة.
واليوم، وبعد سنوات من رحيله، لا يزال اسمه حاضرًا… لا تزال كتبه تُقرأ… ولا تزال شخصياته: أدهم صبري، نور، سارة، قدري،... تعيش في وجدان الأجيال الجديدة.
اقرأ أيضاً:
