أثار فيلم الست للمخرج مروان حامد، ومن تأليف أحمد مراد، وبطولة منى زكي في تجسيد شخصية أم كلثوم، حالةً واسعة من الجدل منذ لحظة الإعلان عنه، مرورًا بحملته الترويجية، وصولًا إلى عروضه الأولية في المهرجانات ودور العرض المصرية والعربية، فقد تحوّل العمل إلى محور نقاشات مستمرة بين النقاد والجمهور، نظرًا لحساسية الشخصية التي يتناولها، وأهمية الرمزية التاريخية والفنية لسيدة الغناء العربي، إضافة إلى التوقعات المرتفعة المصاحبة لفريق العمل القائم عليه.
![]() |
| فيلم الست |
وبين موجات الاحتفاء الأولية والملاحظات الحادة التي وُجّهت إليه لاحقًا، وجد فيلم الست نفسه في قلب معركة نقدية حول الرؤية الفنية، والدقة التاريخية، وطريقة إعادة تقديم الأسطورة على الشاشة الكبيرة.
وفي خضم هذا الجدل، بدا واضحًا أن العمل، رغم طموحه في المقاربة ومحاولته إعادة قراءة حياة كوكب الشرق من زاوية إنسانية تُبرز الصراع الداخلي والوحدة، لم يمرّ دون انتقادات لاذعة، وصلت أحيانًا إلى حدّ وصفه بأنه «يشوّه» صورة أسطورة وطنية.
ما هو «الست»؟ — عناصر الإنتاج والملف الفني
- المخرج: مروان حامد.
- السيناريو: أحمد مراد.
- البطلة: منى زكي في تجسيد شخصية أم كلثوم (كوكب الشرق).
- طاقم داعم من وجوه معروفة سينمائيًا ومسرحيًا.
فيلم الست اعتمد لغته البصرية على الفلاش باك والمونتاج المتقطع، وحاول أن يصوغ ثنائيات بصرية (العلو/الانكماش، الجمهور/الغرفة الفارغة) لعرض بُنية نفسية معقّدة.
فِكرة فيلم الست ومقاربته الدرامية
يطرح فيلم الست رؤية درامية تتجاوز السيرة الذاتية التقليدية، محاولًا تقديم أم كلثوم كإنسانة قبل أن تكون أيقونة، مع إبراز الجوانب النفسية والاجتماعية التي شكّلت مسيرتها.
وبدلاً من السرد الزمني الخطي المعتاد الذي يكرّس القالب البطولي، يعتمد الفيلم على بنية غير خطية بين الماضي والحاضر لتسليط الضوء على الصراعات الداخلية والضغوط النفسية التي واجهتها الأميرة الراحلة للصوت العربي.
يركّز العمل على رحلة شخصية معقّدة تبدأ من طفولة أم كلثوم في الريف المصري، حيث كانت تؤدي الأناشيد الدينية متنكرة بزي ولد، مرًّا بصراعها المبكر مع القيود الاجتماعية والسلطة الأبوية، وصولًا إلى صعودها كواحدة من أهم الأصوات في المنطقة، خلال هذه الرحلة يعالج فيلم الست ظلال الحيرة والوحدة، وثقل الشهرة، وكذلك تحدّياتها في الوسط الفني وفي علاقاتها مع المجتمع والطبقات المختلفة، ما يجعلها تتأرجح بين النجاح المهني والألم الشخصي.
فيلم الست لا يكتفي بالتحولات الخارجية في حياة أم كلثوم، بل يسعى إلى تفكيك الهالة الأسطورية المحيطة بشخصيتها وتقديمها بصيغتها الإنسانية؛ امرأة تواجه قرارات صعبة وتضحيات عالية، خاصة في علاقتها بالعائلة والحب والمكانة الاجتماعية، وقد صرح صناع العمل بأنهم عمدوا إلى إزالة “حجاب التقديس” الذي غالبًا ما يحيط بسيرتها، متجهين نحو قراءة إنسانية نقدية ورؤيوية تتناول كل من قوتها وضعفها على حدّ سواء، وليس مجرد تمجيد لما عرف عنه من مجد فني.
من هذه الزاوية، يُنظر إلى فيلم الست ليس فقط كسيرة ذاتية عن حياة كوكب الشرق، بل كمحاولة فنية لإعادة اكتشاف الإنسانة وراء الأسطورة؛ صوتٌ يملأ العالم، لكنه يواجه ثمنًا نفسيًا جسيمًا في شكل حيرة ووحدة وصراع داخلي مع ذاته ومع بيئته، وهي عناصر تجعل تناول الشخصية أكثر عمقًا وأقل تبسيطًا مما اعتاد عليه الجمهور في الأعمال السابقة.
الاستقبال العام: بين إشادة نقدية وردود فعل معارضة
ردود إيجابية: بعض النقاد ومدونات السينما أشادوا بالتصوير، المونتاج، أداء منى زكي، وجزء من الحسّ الإخراجي الذي يحاول قراءة نفسية بطلة أسطورية، وأشادت تقارير ومقالات بعدد من العناصر الفنية كالتصوير والأزياء والموسيقى.
ردود سلبية/ وجدال عام: أثار الإعلان الترويجي والبوسترات والنشرات الأولية هجومًا على وسائل التواصل؛ اتهامات بتشويه صورة أم كلثوم، واختيار ممثلة بدلاً من عدم إعداد سيرة «موثّقة»، وتركيز على زوايا مهنية أو شخصية يعتبرها البعض مبالغة أو تحويرًا لوقائع تاريخية، كما سجّلت بيانات دفاع من بعض المشاهير وهجوم من آخرين.
نقاط الانتقاد الشديدة (تفصيل وتحليل)
في هذا القسم نركز على أهم وأقسى الانتقادات التي طالت فيلم الست، مع أمثلة وشرح سبب حدة ردود الفعل:
أ. الاتهامات بعدم الدقّة التاريخية وتحريف الوقائع
نقاد ومعلقون رأوا أن السيناريو تغيّر أو أضفى تفصيلات قد لا تستند إلى مصادر موثوقة، أو قدّم قراءات تكثف من هشاشة شخصية أم كلثوم بشكل مبالغ فيه، تلك المسألة أثارت حفيظة مؤرخين ومحبيها الذين اعتبروا أن السرد يقلل من مكانتها التاريخية والثقافية. هذا اتهام متداول حتى قبل عرض الفيلم الكامل.
ب. تشويه الصورة الأسطورية — من الأيقونة إلى امرأة «منكسرة» بلا مبرر
انتقادات حادة انطلقت بأن الفيلم صوّر «الست» بصورة مفرطة في التعاسة والوحدة، حتى بدا كأنّ الغرض إسقاط صورة بطولية بدلاً من قراءة متوازنة. منتقدون ذهبوا إلى وصف قرار عرض مثل هذه الزاوية بـ«الإساءة» لما تمثله أم كلثوم في الوجدان العام.
ج. اختيار التمثيل والـcasting: هل منى زكي مناسبة؟
خلاف عام حول مدى ملاءمة منى زكي لهذا الدور المحاط بقداسة رمزية؛ بعض الجمهور والمؤثرين رآها مناسبة أداءً فنيًا، وآخرون شعروا بأن أي ممثلة ستتعرض لقياس صارم لا يرحم، وأن المشروع نفسه محفوف بالمخاطر. هذا الجدل زاد حدته مع انتشار بوسترات ومقاطع ترويجية.
د. أخلاقيات السرد السياحي/الدرامي: استعمال حرية فنية أم اجتياز خطوط حمراء؟
إلى أي مدى يحق لصناع عمل سيري أن يفترضوا دواخل شخصية عامة من دون مصادر مؤكدة؟ البعض رأى أن العمل تجاوز «الحرية الإبداعية» إلى مستوى استغلال درامي لصوره الخاصة، هذه انتقادات متكررة في سير ذاتية مثيرة للجدل.
هـ. الضوضاء الإعلامية وتأجيج النقاش سياسياً واجتماعياً
المناقشات لم تَحْصرْ نفسها فقط في النقد السينمائي بل امتدت إلى ساحة سياسية/اجتماعية أوسع، حيث اعتبر البعض أن تصوير شخصيات مرتبطة بمراحل تاريخية حسّاسة قد يفتح الباب للأطياف المختلفة للجدل الثقافي والسياسي، حتى بعض الشخصيات العامة علّقت، مما زاد من انتشار السجال.
مواقف متباينة: دفاعات وأصوات مؤيدة
لا بدّ من التذكير بوجود مؤيدين جادّين؛ حيث رأي نقاد سينمائيون ومدراء مهرجانات وصناع سينما في العمل محاولة جريئة لإعادة قراءة شخصية تاريخية عبر لغة سينمائية معاصرة، وأشادوا بأداء منى زكي وبعض العناصر الفنية (موسيقى، تصوير، ماكياج)، كما تلقّى الفيلم دعماً إعلاميًا من شخصيات دافعت عن حرية الإبداع والتجريب السردي في تناول السير الذاتية.
تبعات الجدال: عروض مهرجانية، حضور إعلامي، وإدارة الأزمة
فيلم الست عُرض في مناسبات مهرجانية وواجه خلال ذلك مزيجًا من الإشادات والاحتجاجات. اتُّخذت خطوات إعلامية مختلفة من قِبَل فريق العمل (بيانات، لقاءات، تبريرات) للدفاع عن القرارات الإبداعية، بينما استمرّ الجمهور على شبكات التواصل في تبادل المقاطع التحليلية والتعليقات الساخطة، بعض أقارب أم كلثوم أو ذرّيتها ظهروا للتعبير عن مواقف داعمة أو محايدة تؤكد أنهم لا يرون إساءة مباشرة؛ وفي المقابل استمر الناقدون في اتهام العمل بعدم الحساسية التاريخية.
![]() |
| فيلم الست |
قراءة نقدية: هل النقد «مشروعي» أم رد فعل عاطفي مفرط؟
- قيمة النقد: كل عمل سيري كبير يستدعي مساءلة تاريخية وأخلاقية. إذا تبيّن أن الفيلم ضمّن تحريفات غير مبرّرة أو قراءات ملفقة، فالنقد التاريخي والمجتمعي مشروع تمامًا.
- طبيعة الرفض الجماهيري: هناك دائمًا عنصر عاطفي قوي عند تناول أيقونات قومية، بعض الردود قد تكون دفاعًا عن صورة مقدسة في الذاكرة أكثر من نقد موضوعي للعمل نفسه.
- المخاطرة الفنية: صناع السينما لهم الحرية في المقاربة والاختيار، لكن عندما تتقاطع الحرية مع ذاكرة شعبية حية، تزداد المسؤولية في تبرير الاختيارات أو تقديم مصادر توضيحية (ملاحق، مقابلات، توضيح مقاصد).
قراءة مفصلة | فيلم الست: دراما تفكّك رحلة أم كلثوم من سطوة الرجال إلى امتلاك الذات
يظلّ تقديم عمل فني ينتمي إلى عالم السيرة الذاتية مهمة شائكة، لا سيما حين تكون الشخصية موضع التناول بحجم أم كلثوم، صاحبة المكانة التي رسخت في وجدان الجمهور العربي عبر عقود. لذلك لم يكن غريبًا أن يرافق الجدل كل محاولة للاقتراب من سيرتها، قديمًا على صفحات الصحف وحديثًا عبر منصات التواصل الاجتماعي، بعد الإعلان عن عرض فيلم "الست" بطولة منى زكي، التي تجسد شخصية كوكب الشرق، وإلى جوارها نخبة واسعة من الممثلين، منهم: سيد رجب، محمد فراج، كريم عبد العزيز، أحمد خالد صالح، وتامر نبيل.
يقدّم الفيلم، تأليف أحمد مراد وإخراج مروان حامد، رؤية غير مألوفة لحياة أم كلثوم؛ رؤية تحاول كسر الهالة الرمزية التي التفّت حولها، لتقترب من الإنسانة خلف الأسطورة، باعتبار ذلك ركيزة جرأته الفنية. فالفيلم لا يذهب نحو الكماليات التي التصقت بصورتها العامة، بل يقترب بخطى محسوبة من هشاشتها الإنسانية التي ظلت مخفية خلف قوة الصوت وسطوته.
ويرتكز البناء الدرامي على محور أساسي: فتاة ريفية تشق طريقها من شرنقة التسلط الأبوي إلى مساحة أرحب من امتلاك الذات والتحكم في المصير، رحلة مليئة بالخيارات الصعبة التي ستنعكس تبعاتها الثقيلة على حياتها الخاصة. وبين قراراتها ونتائجها، تتولد الحيرة، وتتشكل المخاوف، وتتراكم وحدتها الداخلية.
ويبدأ الفيلم من حفل باريس الشهير، حيث يترقّب العالم صعود كوكب الشرق على المسرح، ليعود بنا بعدها إلى البدايات؛ الطفلة ذات السنوات الخمس، التي تغني في أفراح ريفية قاسية بدفع من والدها، ثم إلى انتقالها إلى القاهرة بحثًا عن أجر أكبر. لكن محاولتها الأولى للغناء في العاصمة تنتهي بسخرية رجل من مظهرها، قبل أن تواجه عقابًا جديدًا من والدها.
في هذه المرحلة الأولى، يوظف مروان حامد أدواته البصرية بحرفية لتشكيل صورة البطلة: الملابس الرجالية التي فُرضت عليها، طبقة الصوت الغليظة التي تتحدث بها تحت ضغط الخوف، اللقطات القريبة التي تلتقط ارتجاف العيون، وكادرات أخرى تُظهر الأب في وضع أعلى، ليعزز معنى السطوة.
ومع تحرر الفتاة تدريجيًا من هذه الدائرة الضيقة، يتبدل كل شيء: يصبح الصوت أكثر ثقة، النظرات أكثر حضورًا، الخطوات أكثر ثباتًا، وتعود لملابسها الأنثوية. فيما يتوارى الأب شبحًا يظلّل المشاهد كلما ظهر، كما في لحظة عزفه على الدف أثناء تسجيل لحن القصبجي، أو حين يدخل فجأة أثناء تسجيل إحدى أغانيها، فيربكها فتطلب من رامي الجلوس أمامها كي تتمكن من الغناء.
ولا ينتهي التسلط الذكوري عند مرحلة الأب؛ إذ تواجهه أم كلثوم بصيغة أخرى داخل وسط فني يهيمن عليه الرجال. تظهر هذه المواجهة بوضوح في معركة الانتخابات على مقعد نقيب الموسيقيين أمام محمد عبد الوهاب، حيث يوظف المخرج أرشيف الصحافة ليعرض العناوين التي ترفض أن تتولى امرأة موقعًا قياديًا، ثم يعيدها دراميًا عبر حوار أحد العازفين، فيمزج السرد البصري بالحواري لتثبيت معنى الصراع.
كما تتناول سردية الفيلم بعمق البُعد الطبقي الذي واجهته أم كلثوم في القاهرة منذ بداياتها، وصولًا إلى ذروة شهرتها، حين وقعت في حب شريف صبري، خال الملك فاروق. يقدم الفيلم هذه العلاقة بوصفها نافذة على نوع آخر من القهر، كاد أن يهز صورة المطربة القوية أمام الملكة نازلي، انعكست ملامحه على لقطات الكاميرا التي تُبرز صدام المشاعر بين النظرات.
ويتعمّق العمل في الرحلة النفسية لامرأة اختارت الوحدة — بوعي أو بدونه — لتصبح هذه الوحدة كيانًا يكبر تدريجيًا، يلتهم كل ما هو جميل. ولا يقدّم الفيلم الوحدة كقدر مفروض، بل كحصيلة سلسلة من الخيارات الصعبة. وهنا تنجح الرؤية الإخراجية في تجاوز القراءة التقليدية لصورة أم كلثوم بوصفها أيقونة منيعة، لتكشف هشاشتها العميقة، وتناقضاتها، ووجعها الداخلي.
ويبرز نضج مروان حامد في رسم الوحدة بصريًا: فراغات محسوبة، لقطات واسعة تظهر جسدًا صغيرًا وسط صالة ضخمة، ضوء يخفت، ظلال أثاث تتمدد، وغرفة واسعة تتحول رغم اتساعها إلى زنزانة لا يسمع فيها سوى صدى صوتها. أما المونتاج، فيقطع بين لحظات المجد الخارجي والانكماش الداخلي في إيقاع يوحي بأن النجاح نفسه يترك جروحًا لا تُرى، في لحظات فرح ناقصة وحيوات عاطفية انكسرت قبل أن تبدأ.
وفي خضم هذه السردية، يقترب الفيلم من العلاقات العاطفية في حياة أم كلثوم، لا بوصفها وثائق تاريخية، ولكن كمساحة لفهم كيانها الداخلي، خاصة علاقتها بشريف صبري، التي تمثل النقطة التي اكتشفت فيها أن صوتها قادر على ملء الدنيا، لكنه عاجز عن ملء فراغ القلب.
ومع مرور الأحداث، يصبح الجمهور ذاته — مصدر القوة الأول — جزءًا من أزمتها النفسية. فكلما علت الهتافات، تضاعفت مسؤولية حفاظها على الصورة، وكلما عظمت الأسطورة، تكاثفت المخاوف. وهنا يقدم الفيلم قراءة نقدية لثقل النجومية وكيف يمكن أن يتحول التصفيق إلى قيد، والهالة إلى جدار يعزلها حتى عن أقرب من حولها: رامي، القصبجي، وغيرهما.
أما لحظة خطبتها من محمود الشريف، فيستثمرها الفيلم لتجسيد هذا الثقل، باعتبارها انعكاسًا لصدام الرغبة الإنسانية مع قيود الصورة العامة.
ويمضي العمل إلى تقديم الوحدة كاختيار مركّب، يحمل في طياته بقايا خوف ورغبة في السيطرة. فابتعاد أم كلثوم عن الزواج، وإحاطتها نفسها بدائرة صغيرة من المقربين، ليس انسحابًا من المجتمع بقدر ما هو محاولة لبسط السيطرة على ما يمكن السيطرة عليه في عالم لا يمنح المرأة حق تقرير مصيرها بسهولة. ومن هنا يطرح الفيلم سؤاله المركزي:
- ما الثمن النفسي الذي تدفعه امرأة كي تكون سيدة نفسها؟
ويخلق المخرج ثنائيات بصرية موازية لهذه الأسئلة؛ جمهور قليل يرفض "الفلاحة" مقابل جمهور هائل يستقبلها في باريس، جمهور أرستقراطي متوجس في بداياتها، مقابل جماهير من طبقات متعددة في حفلاتها الكبرى. وتعكس هذه الثنائيات مدى التحول في تجربتها، بينما تأتي الكاميرا في لقطة واسعة لتبرز هذا الفارق.
كما يبرز دور المونتاج في تأكيد هذه الثنائيات عبر القطع غير المتماثل، الذي يعكس تشظي عالم أم كلثوم الداخلي؛ من تصفيق مدوٍّ إلى غرفة فارغة، من نجاح ساحق إلى دمعة صامتة وراء الستار.
وتبدو القدرة البصرية لمروان حامد هي العمود الفقري للعمل؛ فالصورة ليست مجرد وسيلة سرد، بل أداة تحليل نفسي، ومساحة لرصد التحولات الدقيقة في الشخصية، بمساعدة تفاصيل الأزياء والديكور ونظرات المجاميع.
وفي النهاية، لا يجتهد فيلم "الست" لصناعة أسطورة جديدة أو هدم الأسطورة القديمة، ولا يتعامل مع أم كلثوم كهرم رابع، بل يقدمها كإنسانة مزيج من القوة والضعف، من الصوت الجبار والروح التي تنكسر في صمت.
ومن هذا التعقيد تحديدًا يستمد الفيلم جرأته وقيمته الفنية، ليعيد طرح السؤال الأزلي:
- كيف تُروى سيرة شخصية استثنائية دون أن يُبتلع الإنسان بداخلها؟
فيلم الست مشروع سينمائي كبير من حيث الطموح والميزانية والاسماء المشاركة؛ نقلته المقاربة الجريئة إلى مركز سجال ثقافي واجتماعي لا يقتصر على تقييم فني عادي، الانتقادات الشديدة تتركز حول دقّة السرد، أخلاقيات التعامل مع ذاكرة عامة، وصياغة صورة نفسية قد يعتبرها البعض مهينة أو مبالغًا فيها.
في المقابل هناك قراءات تقدّر التجريب بصريًا ودراميًا وأداء بطلة العمل الأيام التالية ستكشف:
- كيف سيتعامل الجمهور العام بعد مشاهدة الفيلم كاملاً؟
- هل سينقلب الرأي بعد عرض كامل أم أن الانقسام سيستمر؟
- هل سيتبعه نقاش مُنظّم حول حدود الحرية الإبداعية عند تقديم سير شخصيات تاريخية؟
ختامًا وفي نهاية المطاف، يكشف فيلم الست عن حقيقة باتت راسخة في الوعي السينمائي العربي؛ أن الاقتراب من سيرة أم كلثوم ليس مجرد مشروع فني، بل معركة رمزية وثقافية. فقد دفع العمل ثمن جرأته منذ لحظة الإعلان عنه؛ إذ تحوّل إلى ساحة سجال بين من رأى فيه محاولة واعية لخلخلة الصورة الأسطورية وكشف الإنسان خلف الهالة، ومن اعتبره مشروعًا يحمّل سيدة الغناء العربي ما لم تُصرّح به حياتها أو سيرتها التاريخية.
ومع تزايد حدّة النقد حول دقّة الأحداث، وأخلاقيات السرد، واختيارات التمثيل، بدا واضحًا أن ردود الفعل على الفيلم تجاوزت حدود التقييم الفني لتدخل غرفة الوعي الجمعي، حيث تُعامَل الرموز القومية بكثير من الحساسية والعاطفة. وفي المقابل، ظلّ المدافعون عن الفيلم يتمسكون بحقه في التأويل وإعادة قراءة التاريخ من منظور درامي حديث، معتبرين أن الفن — بطبيعته — لا يلتزم بالوثيقة بقدر التزامه بطرح الأسئلة.
فيلم الست لا يدّعي تقديم الحقيقة المطلقة، بل يقدّم حكاية واحدة من بين احتمالات عديدة لطريقة فهم أم كلثوم، وهي حكاية اختارت التركيز على الثمن النفسي، والوحدة، وصراع الذات مع الصورة العامة. وقد يكون هذا الخيار هو بالضبط ما أشعل هذا القدر من الجدل؛ فهو يلامس منطقة حساسة في الذاكرة العربية؛ فكرة أن القوة الأسطورية قد تُخفي هشاشة بشرية لا يريد الجمهور الاعتراف بها.
ما سيحسم الجدل في الأسابيع المقبلة ليس الضوضاء المصاحبة للفيلم، بل تجربة المشاهدة الكاملة حين يدخل الجمهور إلى القاعات ويواجه العمل بعيدًا عن ضوضاء السوشيال ميديا؛ فهل سيعيد الجمهور قراءة رؤيته تجاه الفيلم؟ هل سيستمر الانقسام، أم سيولد نقاش أكثر تنظيمًا حول حدود الحرية الإبداعية وتناول السير التاريخية؟ وهل سيفتح الفيلم الباب لأعمال أخرى تجرؤ على مراجعة رموز كبرى بالعدسة ذاتها؟
مهما كانت الإجابات، يبقى فيلم الست - بنجاحاته وإخفاقاته، بجرأته ومخاطره - علامة فارقة في مسار أفلام السيرة العربية، ودليلًا على أن تقديم شخصية بحجم أم كلثوم سيظل دائمًا فعلًا مثيرًا، فنيًا وثقافيًا، وربما تاريخيًا أيضًا.
فيديو | شاهد برومو فيلم الست
اقرأ أيضاً:

