في أرشيف الذاكرة العربية، ثمة أسماء لا تُذكر إلا مقرونة بالوجع والنضال، بالكلمة التي لم تُكتب عبثًا، بل نُزفت من الروح.. من بين هذه الأسماء، يلمع غسان كنفاني كوميض برق في ليل طويل، رجل لم يكن مجرد كاتب، بل حامل قضية، وصوت شعب، وتجسيد لفلسطين تمشي على قدمين.
![]() |
غسان كنفاني |
غسان كنفاني لم يُولد ليروي قصص الآخرين، بل ليصنع من قلمه بندقية، ومن الحبر دمًا يسري في عروق الكلمات.. كيف نروي حكاية من جعل من الأدب جبهة مقاومة؟ كيف نصف من لم يكتف بتأريخ النكبة، بل سعى لفهمها وإعادة صياغتها أدبيًا بعمق إنساني وسياسي قلّ نظيره؟
طفل المنفى الذي صار صوتًا لأمته
في التاسع من أبريل 1936، وُلد غسان في عكا، في فلسطين التي كانت حينها ترزح تحت وطأة الانتداب البريطاني.. ولم تمضِ سنوات قليلة حتى انتُزعت الطفولة من بين يديه، إذ أرغمته النكبة عام 1948 على مغادرة أرضه لاجئًا إلى سوريا، ليبدأ فصل جديد من التشرد والمقاومة الداخلية.
دمشق .. وعي يتشكل وعقل مبكر يُدرك
في دمشق، بدأت ملامح وعيه تتشكل، لا كطفل عادي، بل كعقل مبكر يُدرك أن الحياة في المنفى ليست حياة، وأن الوطن لا يُستعاد بالبكاء على الأطلال، بل بالتمسك بالهوية ومقاومة النسيان.. هناك، التحق بالمدارس، وبدأ مسيرته المهنية كمعلم في مدارس الأونروا، وهناك أيضًا استيقظ داخله الكاتب والمناضل.
كلمات تشتعل
منذ بداياته، لم يكن غسان يكتب ليملأ الفراغ، بل ليوقظ الضمائر. كانت مقالاته الأولى في الصحف السورية واللبنانية تنذر بصوت جديد، يكتب بلغة تشبه البوح، ويصرخ بصمت كأنه يحمل الوطن على كاهله.
لم يكن أدبه ترفًا فكريًا، ولا تمرينًا لغويًا، بل مشروع مقاومة.. ففي أعماله مثل "رجال في الشمس"، "ما تبقى لكم"، "أم سعد"، و"عائد إلى حيفا"، استطاع أن يرسم ملامح المأساة الفلسطينية بتقنية سردية عالية، وبحس إنساني عميق لا ينفصل عن الواقع السياسي.
- "رجال في الشمس" مثلًا، ليست فقط قصة موت في صحراء، بل صرخة وجودية في وجه صمت عربي خانع، وجاء فيها السؤال الأبدي: "لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟" وكأنه يسائل أمة بكاملها، لا شخصيات متخيلة.
- "عائد إلى حيفا"، تلك الرواية القصيرة/العميقة، يُعيد غسان تعريف معنى الوطن والانتماء، من خلال أب فلسطيني يعود ليجد ابنه قد تربى في كنف المحتل، جنديًا ضده. إنها ليست رواية فقط، بل مرآة تطرح الأسئلة الكبرى حول فقدان الأرض والهوية.
- "ما تبقى لكم" ليست مجرد حكاية هروب في صحراء، بل مأساة تتقاطع فيها خطوط الفردي والجمعي، حيث يتحول الهروب من الاحتلال إلى مواجهة الذات.. في هذه الرواية، تنكسر الحكاية التقليدية لصالح سرد داخلي مأزوم، يتحرك بين الرمال والخوف والذكريات، فيما تشكّل شخصية "مريم" أيقونة امرأة تقف عند مفترق الطرق بين الخيانة والتحرر، بين الإذعان والرفض.
- "أم سعد"، هذه الرواية/المرآة، تعطي الصوت لمن لا صوت لهم. "أم سعد" ليست فقط أمًّا، بل صورة مصغرة للوطن، للحارة، للمخيم، للمرأة التي تصنع البطولة من الصبر.. غسان لم يكتبها ليمجّد المعاناة، بل ليفضح استمرارها، ليعلن أن البطولة اليومية في وجوه الأمهات تفوق صخب البنادق أحيانًا.. في "أم سعد"، يقف غسان إلى جوار البسطاء، ليمنحهم حبره وضميره.
- "العاشق"، يبرز كنفاني كيف أن الحب ليس مجرد علاقة عاطفية بسيطة، بل هو حالة وجودية تعكس نزاعات الهوية والانتماء. يجد البطل في العشق وسيلة للتحدي والإفلات من قيود واقعٍ خانع، فيصبح العشق لغة المقاومة التي تضيء بصيص أمل وسط الظلام السياسي والاجتماعي.. لا يُقدم العمل الحب بصورة رومانسية سطحية، وإنما كصرخة وجودية تمزج بين الألم والرغبة، لتكشف مدى ارتباط الفرد بالمأساة التي تحيط به.
- "برقوق نيسان"، يأتي "برقوق نيسان" كعمل فني يصوغ رمزية الحياة اليومية والنبض الثوري في قالب سردي متمايز.. من خلال تفاصيل بسيطة تحولت إلى معاني عميقة، يحول كنفاني مشاهد من واقع الفلسطيني إلى أيقونات تمثل صراع الحرية مع الاستبداد.. تتقاطع هنا النبرة الحزينة مع طابع التمرد الهادئ، في تصوير لمحات من الحياة التي تتحدى الصمت والعجز، وتعلن عن الحياة رغم القيود والظروف العسيرة.
- "عالم ليس لنا"، في "عالم ليس لنا"، يتعمق كنفاني في استجواب مفاهيم الوطن والغرابة التي يشعر بها الفرد في ظل الاحتلال والتهجير.. يطرح الكاتب من خلال هذا العمل تساؤلات فلسفية حول الهوية والانتماء، فالعالم الذي يُروى ليس سوى مرآة تكسر الزيف الذي يفرضه النظام، وتكشف عن انشقاقات الواقع وهشاشته.. يقدم كنفاني هنا سردًا يمزج بين الخيال والمرارة، فتتحول القصة إلى رحلة بحث عن الذات في فضاء يتلاشى فيه حدود الأمان والحقيقة، ما يجعل من القراءة تجربة تحريرية للنفس والروح.
كلٌ من هذه الأعمال يعيد صياغة اللغة الفنية لتصبح بمثابة سلاح في مواجهة الواقع، حيث تتداخل القصص الشخصية مع المأساة الجماعية لتضع الفلسطيني في قلب الوجدان الإنساني والمقاومة الفكرية.
ما هو أبعد من الأدب
غسان كنفاني لم يكن روائيًا فحسب، بل مثقفًا عضويًا، كما وصفه غرامشي.. عمل في الصحافة، وأسس مجلة "الهدف"، التي أصبحت منبرًا للفكر المقاوم، كما شغل منصب الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
كتب في النقد، ودرس الأدب الصهيوني تحليليًا، واشتبك فكريًا مع العدو، حتى في نصوصه المسرحية ورسوماته الكاريكاتيرية. كان مثقفًا شاملًا لا ينفصل فيه الفن عن السياسة، ولا الجمال عن الموقف.
موت بحجم الفكرة
في صباح 8 يوليو 1972، اغتيل غسان كنفاني بتفجير سيارته في بيروت، في عملية تبناها الموساد الإسرائيلي.. لم يكن استهدافه مفاجئًا، إذ كان يعلم جيدًا أن كلماته أشد وقعًا من الرصاص، وأنه لن يُمنح ترف الموت الطبيعي.. قُتل كنفاني ومعه ابنة شقيقته لميس، لكنه بقي حيًا في ضمير كل من قرأه، وكل من رأى في الكتابة فعل مقاوم، وقبل استشهاده، كان يقول:
"ليس المهم أن يموت الإنسان قبل أن يحقق فكرته النبيلة، بل المهم أن يجد لنفسه فكرة نبيلة قبل أن يموت."
وهكذا عاش غسان كنفاني ومات: وفيًا لفكرته، ملتزمًا بقضيته، مُخلصًا للكلمة حتى الرمق الأخير.
أدب لا يموت
بعد مرور أكثر من نصف قرن على استشهاده، لا تزال أعماله تُدرّس وتُترجم، وتتحوّل إلى أفلام ومسرحيات، لأنها ببساطة لم تكن آنية، بل ذات بعد إنساني عابر للزمن. كانت فلسطين بوابته إلى العالم، لكنه تحدث بلسان كل من عرف المنفى، أو عاش الظلم، أو قاوم من أجل الحرية.
خلفية النار التي كتب في وهجها
في زمنٍ كانت فيه الخسارة تُسمّى نكسة، والهزيمة تُزيّن بخطاب عروبي متخاذل، كتب غسان كنفاني. لم تكن كتاباته تنفصل عن غبار الخنادق ولا صرخات المخيمات؛ كان شاهدًا على الانكسار الذي تلا عام 1967، وعيون الفقراء تفتّش عن وطن في وجوه القادة. كتب في زمن الصعود الثوري، حين تحوّلت البنادق إلى بوصلة، والكلمات إلى بيانات تعبئة. وسط هذا الزخم، تميّز غسان، لأنه لم يكتب للتمجيد، بل للمساءلة، لم يرفع راية حزب، بل حمل راية القضية على أكتاف اللغة.
الأسلوب الكنفاني: عندما تصبح اللغة جبهة
أسلوب غسان كنفاني لم يكن زينة لغوية، بل أداة مقاومة.. لغته مُشحونة، مكثّفة، تقول الكثير في القليل، كأن كل كلمة تقف على حافة هاوية.. كان سيد الرمز، يوظف الصورة البسيطة لتكشف عمقًا سياسيًا واجتماعيًا لا يُرى من الوهلة الأولى.. شخصياته ليست مجرد أفراد، بل تجسيدات للهزيمة والصراع والأمل المستحيل. والبناء الدرامي في قصصه يتحرك كقنبلة موقوتة، لا تهدأ إلا بانفجار داخلي يوقظ القارئ من سباته.. غسان لم يكتب ليصف، بل ليصدم، ليجعلك تفكر بأن الوطن ليس مجرد مكان، بل جرح مفتوح على اتساع الذاكرة.
المثقف الذي قال "لا"
في زمن تصالح فيه البعض مع فكرة الاستسلام، ظل غسان كنفاني واقفًا في العراء، يقول "لا" كبيرة بحجم القضية. لم يهادن، لم يُجامل، ولم يُبدد حبره في نفاق سياسي.. كان واضحًا في موقفه من التسوية: لا مكان للتفاوض على العدالة، ولا للمقايضة على الذاكرة.. نظرته للطبقات الاجتماعية لم تكن سطحية، بل فهم أن الفقر ليس عيبًا، بل نتيجة استعمار مزدوج: احتلال الأرض واحتلال الإرادة. وفي مقالاته، كما في قصصه، وقف دائمًا مع المهمّشين، مع الذين لا يجدون متسعًا في طاولة القرار، لكنه منحهم منبرًا في قلب الأدب.
رجل تتنفس الكتب من حزنه
وراء الكاتب والمناضل، كان هناك إنسان ينزف بصمت.. بين أوراقه رسائل لم تكتمل، وحكايات حب اختبأت في ظلال القضايا الكبرى.. لم يكن غسان راهب ثورة فحسب، بل رجلًا يعرف معنى الغربة حين تغلق النوافذ، ومعنى الحب حين يُقاس بالمسافة والانتظار.. لميس، ابنة شقيقته، كانت أقرب إلى قلبه من أي نص، وموتها معه لم يكن صدفة، بل مأساة مركّبة اختزلت حياته كلها: الوجع العائلي المتشابك مع القضية. ومن شهادات من عرفوه، نعرف أن غسان لم يكن يُخفي دمعته، لكنه كان يُحسن كتابتها، يحوّل الحزن إلى كلمات تسكننا طويلًا.
صدى لم يخفت بعد
في كل عام يُعاد اكتشاف غسان كنفاني، لا لأنه غاب، بل لأننا ما زلنا نحتاجه. تُحوّل رواياته إلى مسرحيات، يُستعاد صوته في الأفلام، وتُدرّس نصوصه في الجامعات، ليس فقط بوصفه كاتبًا فلسطينيًا، بل كوجدان إنساني عابر للحدود.. في زمن امتلأت فيه الساحة بأصوات عابرة، بقي غسان صوتًا جوهريًا، لأن قضاياه لم تكن موضة، بل جوهر الحياة.. حتى الشباب الذي لم يعاصره، يجد فيه مرآة لأسئلته، وصدى لقلقه، وورقة أولى لكتابة الغد. إن كلماته لا تُقرأ فقط، بل تُقاوَم بها.
الحبر الذي صار دمًا
كان غسان كمن يسير في صحراء الكلمات، يحمل قلمه كمن يحمل بندقية، ويكتب كمن يقطع طريقًا إلى وطنه المنفي.. مات قبل أن تكتمل الرواية، لكن فصوله ما زالت تُكتب في وجدان كل من حلم بالحرية. لم يكن جسده سوى ورقة احترقت، لكن الحبر الذي خطّ به قضاياه لم يجف. هناك، بين السطور، يقف غسان كنفاني، ليس ككاتب، بل كأيقونة تُشهر الكلمة في وجه العتمة، وتُعلن أن العودة تبدأ حين نكتبها.
![]() |
غسان كنفاني |
ختامًا: غسان كنفاني لم يكن مجرد كاتب، بل أيقونة. لا تُختصر حكايته في عدد سنواته، بل في عمق أثره. صنع من الكلمة وطنًا، ومن الحبر خريطة للعودة.
اقرأ أيضاً: