في تاريخ العلم الإسلامي، يظل كتاب "صحيح البخاري" الذي دوّنه الإمام البخاري رمزًا خالدًا للجهد العلمي والدقة الحديثية، إذ لم يكن هذا الكتاب مجرد مصنف من بين مئات كتب الحديث التي ظهرت في القرون الأولى، بل صار أصح كتاب بعد القرآن الكريم كما أجمع علماء الأمة، لما تميز به من منهجية صارمة، وتمحيص دقيق للأحاديث النبوية.
![]() |
كتاب صحيح البخاري |
ما هو كتاب صحيح البخاري؟
كتاب صحيح البخاري من أعظم كتب الحديث النبوي الشريف وأكثرها شهرة ومكانة بين المسلمين، حيث يُصنّف باعتباره أصح كتاب بعد القرآن الكريم.. ألّفه الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، وضمّ فيه آلاف الأحاديث النبوية الصحيحة التي تحقّق فيها من صحة أسانيدها ومتونها وفق شروط دقيقة وصارمة. هذا الكتاب ملأ الدنيا وشغل الناس عبر القرون، وأصبح مرجعًا لا غنى عنه في العلوم الإسلامية.
من هو الإمام البخاري؟
وُلد الإمام محمد بن إسماعيل البخاري عام 194 هـ في مدينة بخارى (أوزبكستان حاليًا)، ونشأ في أسرة مسلمة ذات مكانة علمية.. بدأ حفظ الحديث وهو دون العاشرة من عمره، وتمكّن في سن السادسة عشرة من حفظ كتب كبار المحدثين مثل ابن المبارك ووكيع.. وقد شهد له العلماء منذ صغره بذكاء خارق وقدرة مذهلة على الحفظ والاستيعاب.
لماذا ألّف الإمام البخاري كتابه؟
في القرن الثالث الهجري، شاع الخلط بين الأحاديث الصحيحة والضعيفة بسبب كثرة الرواة وتباعد الأسانيد، فبرزت الحاجة إلى كتابٍ يضمّ الأحاديث الصحيحة فقط.. جاءت الفكرة عندما قال شيخه إسحاق بن راهويه:
"لو جمعتم كتابًا مختصرًا يشتمل على صحيح سنة النبي".فاستجاب البخاري لهذه الدعوة وبدأ رحلته العلمية لجمع الأحاديث وتصحيحها وتنقيتها من كل شائبة.
بدايات أعجوبة علم الحديث
في أحد المجالس العلمية، جلس الإمام الجليل أبو حفص الكبير، يُدرّس الحديث، وبينما هو يشرح حديثًا نبويًا، قاطعه صبي لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره، يصوّب له 3 مرات!
تعجب الشيخ من جرأة الفتى، وسأل:
- "مَن هذا؟"
- "هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن بردذبه".
"احفظوه، فإن هذا يصير يومًا رجلًا."
كان الصبي محمد بن إسماعيل البخاري، الذي وُلد سنة 194 هـ في بخارى (أوزبكستان حاليًا)، لعائلة مسلمة أصيلة، وكان أبوه قد توفي وترك له ميراثًا طيبًا، فكرّس حياته للعلم منذ الصغر.
يقول عن نفسه:
"أُلهمت حفظ الحديث وأنا دون العاشرة، ولما بلغت السادسة عشرة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع."
وروى أحد العلماء الكبار، سليم بن مجاهد، أنه سمع عن صبي يحفظ سبعين ألف حديث، فلما قابله وسأله، قال له البخاري:
"نعم، وأعرف مولد كل راوٍ ووفاته ومحل إقامته."
ما قبل البخاري
يحكي أبوبكر كافي في كتابه «منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها»، أن جهود البخاري في تنقية المرويات كانت سلسلة ممتدة منذ عهد تدوين الأحاديث حتى عصره، وأنه استفاد بشدة من جهود الأئمة الذين سبقوه سواء من حيث المادة العلمية أو المنهجية.
ويضيف أن من الأخطاء الشائعة الظن أن الأحاديث لم تُجمع إلا على يد البخاري، وأن المسلمين لم يعرفوا العمل بها إلا بعد كتابه، وهذا غير صحيح، فقد خرجت في القرنين الثاني والثالث الهجري المئات من كتب السنة؛ من «السُنن» و«المصنفات» و«الجوامع» و«المسانيد» و«المغازي والسير»، وكان البخاري مطّلعًا عليها ومستفيدًا منها.
لماذا وضع البخاري صحيحه؟
رغم كثرة كتب الأحاديث في القرن الثاني، إلا أنها لم تكن تعتني بتصحيح الروايات، بل كانت تضم الصحيح والضعيف معًا، معتمدين على قدرة الفقيه أو المحدث على التمييز.. لكن مع تعقد السند وكثرة الطرق، ظهرت الحاجة لكتاب لا يورد إلا الصحيح.
كما واجه في عصره موجات من البدع، من الإرجاء والاعتزال والتشيع، مما دعاه لأن يضع كتابًا يظهر مذهب أهل السنة ويعتمد أصح الروايات.
رحلته العلمية من بخارى إلى الأمصار
بدأ البخاري رحلته العلمية من مدينته بخارى، حيث تتلمذ على يد كبار علمائها، ثم ارتحل مع والدته وأخيه لأداء الحج، وهناك اتخذ قرارًا غيّر مجرى التاريخ: البقاء في مكة لتلقي العلم.
مكث ستة أعوام في الحرمين، ثم ارتحل إلى المدينة، فالكوفة والبصرة، ثم الشام ومصر وخراسان، فجمع الحديث من أكثر من ألف شيخ، منهم:
- محمد بن سلام البيكندي
- عبدان بن عثمان
- أبو عاصم النبيل
- عبدالعزيز الأويسي
- إسحاق بن راهويه (أبرز شيوخه وأثره واضح في تأليف "الكتاب")
وهكذا شكّلت هذه الرحلات العلمية المكثفة الأساس المتين لموسوعته الحديثية الخالدة، فكان نتاجها كتابًا هو خلاصة علم الأسانيد، ودقة الرواية، ورحلة عمرٍ كرّسه الإمام البخاري لخدمة حديث النبي الكريم، فخلّد اسمه بين أعظم علماء الإسلام عبر العصور.
لماذا ألّف الإمام البخاري "صحيح البخاري"؟
رغم وجود مئات الكتب الحديثية قبله، فإن أغلبها كان يجمع بين الصحيح والضعيف، ويترك التمييز للعلماء والفقهاء. لكن شيخه إسحاق بن راهويه قال له:
"لو جمعتَ كتابًا مختصرًا لما صح من سنة رسول الله"فأثارت الفكرة في قلبه عزيمة، ثم جاءت الرؤيا: رأى النبي في المنام وهو يذب الكذب عنه، وقيل له:
"أنت تذب الكذب عنه."
من هنا بدأت رحلته لجمع صحيح الحديث فقط، ووضع ضوابط علمية فريدة تميّز بها عن غيره.
منهجه في كتابه صحيح البخاري
قال البخاري:
"ما أدخلت في هذا الكتاب إلا ما صح، وتركت من الصحاح كي لا يطول."ومن أبرز شروطه لقبول الحديث:
- اتصال السند
- عدالة الرواة وضبطهم
- عدم وجود شذوذ أو علة
- تحقق اللقاء بين الراوي وشيخه (في الإسناد المعنعن)
ويُذكر أن الإمام مسلم، تلميذ البخاري، لم يشترط هذا الشرط الأخير، مما جعل بعض العلماء يقدّم صحيح البخاري على مسلم في المرتبة.
محتوى كتاب صحيح البخاري
يحتوي صحيح البخاري على ما يقارب 7,275 حديثًا، بما في ذلك المكرّر، وإذا حذفنا المكرر تبقى حوالي 2,600 حديث.. رتب البخاري الأحاديث في كتابه وفق أبواب فقهية، مثل كتاب الطهارة، الصلاة، الزكاة، الصيام، الجهاد، التفسير، المغازي، وغيرها.
أهمية صحيح البخاري في الإسلام
- مرجع أساسي في الحديث النبوي لدى علماء الفقه والتفسير والعقيدة.
- منهج في التثبت العلمي والتحقيق والتوثيق.
- وسيلة للرد على البدع والانحرافات الفكرية في زمنه، مثل المعتزلة والمرجئة.
- أثره ممتد في آلاف الشروح والحواشي والدرا25سات التي أُلفت حوله عبر القرون.
أثر الكتاب ومكانته في الأمة
لم يكن "صحيح البخاري" مجرد تجميعٍ للأحاديث، بل كان ثورة منهجية في علم مصطلح الحديث. وقد قال عنه القاضي الحسين بن الحريث:
"كأنه لم يُخلق إلا للحديث."
ويعتبره جمهور العلماء، قديمًا وحديثًا، أدق ما دوّن من الحديث الصحيح، وصار مرجعًا لا يُستغنى عنه، يُدرّس في الجامعات، وتُقام حوله الشروح والدروس، أبرزها:
- فتح الباري لابن حجر العسقلاني
- عمدة القاري للعيني
- إرشاد الساري للقسطلاني
وقد امتد أثر هذا الكتاب العظيم إلى كل بقعةٍ بلغها نور الإسلام، فصار نبراسًا يهتدي به طلاب العلم، وعمدةً لأهل الفقه والحديث، ومصدرًا أصيلًا في فهم السنة النبوية. ولم تخلُ قرون الأمة من علماء جعلوا "صحيح البخاري" محور دراستهم وتدريسهم، فكان بحقّ، بعد القرآن الكريم، أعظم ما خدم به المسلمون دينهم، وذادوا به عن سنة نبيهم.
الكتاب الذي تجاوز الزمان والمكان
يظل كتاب "صحيح البخاري" الذي ألّفه الإمام البخاري، شاهدًا على نبوغ فريد، وإخلاص عميق، وجهد علمي مذهل، اختلط فيه الحفظ بالسفر، والتوثيق بالرؤيا، والتقوى بالعلم.
لم يكن البخاري مجرد ناقل للأحاديث، بل كان صانعًا لمنهج علمي متكامل، لا يزال حاضرًا بقوة في وجدان الأمة الإسلامية.
شروح كتاب صحيح البخاري
نال صحيح البخاري اهتمامًا بالغًا من العلماء على مر العصور، فَكَثُرَت شروحه وتنوعت، ما بين شروح مطولة تناولت كل حديث بالسند والمتن والمعنى، وأخرى اختصرت البيان والتفسير، ومن أبرز هذه الشروح:
- فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني: ويُعَدّ أشهر وأهم شرح لصحيح البخاري، وقد استغرق فيه ابن حجر أكثر من 25 عامًا من العمل العلمي المضني. جمع فيه بين روايات المحدثين وفقه الأئمة، وشرح الألفاظ الغريبة، وربط بين الأحاديث، وبين أقوال العلماء.
- عمدة القاري لبدر الدين العيني: وهو شرح حنفي يُعتبر من أوفى الشروح، امتاز بالدقة الفقهية والنقل عن علماء الحنفية، ورد فيه على ابن حجر في مواضع عدة، مما جعلهما من الشروح المتكاملة.
- إرشاد الساري للقسطلاني: جمع بين منهج ابن حجر والعيني، وسهّل العبارة، واعتُبر مدخلًا جيدًا لفهم صحيح البخاري خاصة لطلبة العلم.
وتسهم هذه الشروح في توضيح معاني الأحاديث، وشرح المفردات الغريبة، وبيان اختلاف الروايات، إضافة إلى تفصيل الأحكام الفقهية المستنبطة من كل حديث، مما جعلها مراجع لا غنى عنها في دراسة السنة النبوية وعلوم الحديث.
مكانة صحيح البخاري عند العلماء والأمة الإسلامية
يحظى صحيح البخاري بمكانة رفيعة لا تضاهى في التراث الإسلامي، فقد أجمع العلماء عبر العصور على أنه أصح كتاب بعد القرآن الكريم، ويُعدّ المرجع الأول في علم الحديث النبوي الشريف.. وقد قال عنه الإمام النووي:
"اتفق العلماء على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان، وأصح الصحيحين: البخاري."
كما أثنى عليه كبار الأئمة، فقال الإمام الشافعي:
"ما تحت أديم السماء كتاب في العلم أكثر بركة من كتاب محمد بن إسماعيل."
واعتبره ابن حبان:
"كتابًا لم يُصنف في الإسلام مثله."
ويستند العلماء والمفتون في فتاواهم على أحاديثه، وتُدرّس أحاديثه في المدارس والجامعات، وتُقرأ شروحه في حلقات العلم، لما جمعه البخاري من دقة في النقل، وصرامة في التوثيق، ومنهج علمي فريد في تصحيح الأحاديث.
أما على مستوى الأمة الإسلامية، فلا تكاد تخلو مكتبة بيت أو مسجد أو معهد من نسخة من صحيح البخاري، ويُقبل الناس على قراءته وتعلمه، لما يحتويه من أحاديث العقيدة، والعبادات، والمعاملات، والسيرة النبوية، والآداب الإسلامية، مما يجعله كتابًا شاملًا يجمع بين العلم والإيمان، والفقه والهدي النبوي.
تقسيم كتاب صحيح البخاري وأبرز موضوعاته
قسّم الإمام البخاري كتابه إلى كتب وأبواب، بلغ عددها أكثر من 90 كتابًا رئيسيًا، تتفرع إلى آلاف الأبواب، تناول فيها مختلف جوانب الدين والحياة، مما جعل الكتاب مرجعًا شاملًا وموسوعة حديثية متكاملة.
بدأ البخاري كتاب صحيح البخاري بكتاب بدء الوحي، إشارة إلى أن الوحي هو أساس الرسالة، واختتمه بكتاب التوحيد، تأكيدًا لعقيدة الإسلام وأصول الإيمان، وتوزعت موضوعاته بين العقائد والفقه والسلوك، فشملت:
- كتاب الإيمان: تناول فيه أركان الإيمان وأحكامه.
- كتاب العلم: اهتم فيه بفضل العلم وطرق تحصيله.
- كتاب الصلاة، الزكاة، الصيام، الحج: وهي كتب الأحكام الفقهية الأساسية.
- كتاب الجهاد والسير: عن أحكام القتال والسير النبوي.
- كتاب النكاح، الطلاق، البيوع: في المعاملات والأحوال الشخصية.
- كتاب الطب، الدعوات، الرقاق: وهي كتب تتعلق بالأخلاق والعلاج والتزكية.
- كما ضم كتاب المغازي وكتاب المناقب وكتاب فضائل الصحابة: التي أبرز فيها البخاري الجوانب التاريخية والبطولية من السيرة النبوية.
ولم يكتفِ البخاري بجمع الأحاديث فحسب، بل رتّبها في أبواب دقيقة، وعلّق في بعضها بكلمات فقهية دقيقة، مما جعله إمامًا ليس في الحديث فقط، بل في الفقه والمنهج أيضًا.
ختامًا؛ ليس من قبيل المبالغة القول إن صحيح البخاري يمثل ذروة سنام علم الحديث، وعصارة جهد امتد لسنوات طوال من الترحال، والمقابلة، والتثبت، والتنقية.. هو كتاب جمع بين الدقة المنهجية، والعمق العقائدي، والثراء الفقهي، فكان بحق أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى.
ومع كثرة الشروح التي تناولته، يظل الكتاب محتفظًا بجلاله وهيبته، يستدعي العلماء لفهم دقائقه، ويُلهم القرّاء من كل زمان ومكان لاكتشاف نوره.. إنه ليس مجرد تجميع لأحاديث، بل رؤية علمية متكاملة لصياغة الوعي الديني، وفق ميزانٍ صارم من العدالة والإتقان.
وإنّ العودة إلى صحيح البخاري ليست رجوعًا إلى الماضي، بل إبحارًا في بحر من الحكمة النبوية، وسيرٌ على دربٍ خطّه الأوّلون، لمن أراد أن يفهم الإسلام من منبعه الأصفى.