مارغريت أتوود .. امرأة كتبت مصيرها بالقصيدة والرواية

في زاوية منسية من الغابات الكندية، حيث يصمت الزمن وتهمس الأشجار بأسرارها، وُلدت مارغريت أتوود عام 1939 في أوتاوا، لكنها لم تنتمِ يومًا إلى المكان بقدر ما انتمت إلى اللغة، إذ ترعرعت في كنف الطبيعة البكر، في عزلة لم تكن عبئًا بل هبة، وأدركت باكرًا أن الكلمة هي ملاذها ومجدافها نحو العالم.


مارغريت أتوود
مارغريت أتوود 


كانت السادسة عشرة لحظة إعلان داخلي: أن تكون كاتبة، لا لأن الكتابة مهنة، بل لأنها قدر. التحقت بجامعة تورنتو، وتعلمت تحت ظلال الشعراء والنقاد، مثل جاي ماكفيرسون ونورثروب فراي، لتصقل حدسها الفطري بالمعرفة، ثم كانت هارفارد، التي منحتها الماجستير، لكنها لم تنتزع منها جذورها الكندية ولا خيالها الحر.

قالت ذات مرة: 

"في كلمة بعد كلمة بعد كلمة، ثمة سطوة."

وهذه السطوة هي ما مارسته على اللغة، وعلى القارئ، وعلى الزمن نفسه.

من هي مارغريت آتوود؟

مارغريت إلينور آتوود (Margaret Atwood)، وُلدت في 18 نوفمبر 1939، هي كاتبة وروائية وشاعرة وناقدة أدبية كندية، تُعد من أبرز الأصوات الأدبية في العالم الحديث، اشتهرت بأعمالها التي تمزج بين الأدب والفكر والنقد الاجتماعي والنسوي، وحازت على عدد من الجوائز المرموقة، منها جائزة آرثر سي، كلارك للأدب، إلى جانب أوسمة رسمية من كندا ومقاطعة أونتاريو. كما أنها زميلة في الجمعية الملكية الكندية.

رُشحت لجائزة البوكر خمس مرات، وفازت بها مرتين: الأولى عام 2000 عن روايتها السفاح الأعمى (The Blind Assassin), والثانية عام 2019 عن رواية الوصايا (The Testaments)، مناصفة مع الكاتبة البريطانية ذات الأصول النيجيرية برناردين إيفاريستو.

ورغم أن شهرتها الكبرى جاءت من أعمالها الروائية، فإن شعرها نال احتفاءً واسعًا أيضًا، إذ أصدرت حتى الآن 15 مجموعة شعرية، تثبت من خلالها قدرتها الفريدة على الجمع بين العمق الفكري والجمال اللغوي.

النشأة والتكوين 

وُلدت مارغريت آتوود في أوتاوا، أونتاريو بكندا عام 1939، وكانت الابنة الثانية من بين ثلاثة أبناء. نشأت في كنف عائلة علمية؛ فوالدتها، مارغريت دوروثي، كانت مختصة بالتغذية، ووالدها، كارل إدموند آتوود، كان عالم نبات يعمل في الأبحاث الميدانية داخل الغابات. وقد أثّرت طبيعة عمل والدها بشكل كبير على طفولتها، إذ قضت سنواتها الأولى متنقلة في أرجاء شمال كيبك ومناطق كندية أخرى، حيث كانت تحيط بها الغابات البرية والبيئة الطبيعية.

بسبب هذا النمط المتنقل، لم تلتحق آتوود بالمدرسة بشكل منتظم حتى بلغت الحادية عشرة من عمرها، لكنها خلال تلك السنوات المبكرة طورت شغفًا كبيرًا بالقراءة، وأقبلت بنهم على الأدب والخيال والأساطير والقصص الشعبية، بالإضافة إلى كتب الحيوانات. بدأت محاولاتها في الكتابة وهي في السادسة من عمرها، وفي سن السادسة عشرة أدركت أن الكتابة هي طريقها ومصيرها.

أكملت تعليمها الثانوي في تورونتو عام 1957، ثم التحقت بجامعة فيكتوريا التابعة لجامعة تورونتو، حيث درست اللغة الإنجليزية وتخرجت بمرتبة الشرف عام 1961، مع تخصصين فرعيين في الفلسفة والفرنسية. تابعت دراساتها العليا في الولايات المتحدة، فنالت درجة الماجستير في الأدب من كلية رادكليف التابعة لجامعة هارفارد عام 1962، بفضل منحة وودرو ويلسون.

وعلى مدى سنوات، مارست آتوود التدريس الأكاديمي في عدد من الجامعات الكندية، من بينها جامعة كولومبيا البريطانية (1965)، وجامعة سير جورج ويليامز في مونتريال (1967–1968)، وجامعة ألبيرتا (1969–1979)، كما حاضرت في جامعة يورك في تورونتو، وجامعة نيويورك، وغيرها.

شاعرة قبل أن تكون روائية

نشرت مارغريت أتوود أولى مجموعاتها الشعرية "بيرسيفوني المزدوجة" عام 1961، ثم توالت أعمالها مثل "لعبة الدائرة" التي حصدت جائزة الحاكم العام، كانت تكتب وكأنها تستنطق الماورائي في الأشياء، تلتقط النبض الخفي في التفاصيل. في إحدى قصائدها كتبت: 

"أشعر وكأن الكلمة تتحطّم."

ولعلها بذلك كانت تُشير إلى هشاشة اللغة حين تلامس الحقيقة، أو الحقيقة حين تمرّ عبر اللغة.

"الخادمة القرمزية"… رواية تحوّلت إلى أيقونة

روايتها الأشهر "قصة الخادمة" (1985) لم تكن مجرّد سردٍ مستقبليّ dystopian، بل كانت بيانًا نسويًا مكتوبًا بمداد الغضب والرؤية، وقصيدةً طويلة في شكل رواية.. كتبتها أتوود كما لو كانت تحذّر العالم من نفسه، أو تعيد كتابة التاريخ بأنامل امرأة اقتلعت صوتها ثم استعادته.. تحوّلت الرواية إلى فيلم عام 1990، ثم إلى مسلسل عالمي شهير عام 2017، وما زالت تترك أثرها كنداء صادق في وجه القمع.

كتبت أتوود في هذا السياق:

"ربما لا أكتب لأحد، ربما لنفس الشخص الذي يكتب له الأطفال على الثلج."

مأساة الحب والحياة

تزوجت من الكاتب جيم بولك ثم انفصلت عنه، لتجد في الروائي غرايم جيبسون شريكًا لحياتها وأدبها، أنجبت منه ابنتها إليانور، وكان حضوره في حياتها امتدادًا لصوتها، وحين غاب بالموت عام 2019، كتبت عنه مقالًا مفعمًا بالشجن في الغارديان، كأنها تودّع جزءًا من قلبها.

"السفاح الأعمى"… الرواية التي جلبت البوكر

في عام 2000، نالت مارغريت أتوود جائزة البوكر عن روايتها "السفاح الأعمى"، وهو عمل تجريبيّ يندمج فيه الواقع بالفانتازيا، الحب بالموت، الرواية بالرواية داخل الرواية.. هذا العمل وحده كافٍ لتكريسها بين أعمدة الأدب العالمي.

مارغريت أتوود في زمن الجوائح والمناخ

في العقدين الأخيرين، اتجهت أتوود نحو كتابة "الواقع المتحوّر"، حيث الكارثة ليست احتمالًا، بل واقعًا مقيمًا.. في ثلاثيتها البيئية "أوريكس وكريك"، "عام الطوفان"، و"مأوى ماد آدم", تتعامل مع الإنسان بوصفه مخلوقًا على وشك الانقراض، والطبيعة بوصفها المُخلِّص المحتمل أو القاضي الأخير.

تكتب:

"لقد حاولنا بناء الجنة، لكننا أنشأنا مستودعًا للدمار."

في هذه الأعمال، تتحوّل الكتابة إلى عدسة مكبرة تفضح جشعنا، وتعيد تعريف "النجاة" من جديد.

أنثى ما بعد النسوية

مارغريت أتوود لا تكتب من داخل النسوية، بل من ضفافها القلقة.. لا ترفع شعارات، بل تسائلها. في شخصياتها، المرأة ليست ضحية فقط، بل أيضًا شريكة في القمع أحيانًا، وفريسة للتاريخ كما هي صانعة له. تقول:

"كلمة «يجب» عديمة الجدوى، تنتمي إلى عالم موازٍ."

لذلك لا تُخبرنا كيف يجب أن نكون، بل تكشف لنا ما نحن عليه… بلا زينة.

الهوية الكندية: أدب النجاة لا النصر

في كتابها النقدي "نجاة: دليل موضوعاتي للأدب الكندي"، قدّمت أتوود رؤيتها للهوية الكندية بوصفها هوية تقاوم الفناء، لا تبحث عن انتصار، بل عن أثر.. الكندي عندها ليس من يرفع راية، بل من يحفر اسمه في الجليد. تقول:

"من المستحيل أن تقول شيئًا كما كان تمامًا."

ربما لهذا تكتب دومًا، لا لتصف ما حدث، بل لتخترع كيف يمكن أن يُفهم ما حدث.

الشعر: العزلة المضيئة

مارغريت أتوود لم تتخلّ يومًا عن الشعر. في قصيدتها "أغنية حوريّة البحر"، نقرأ صوتًا لا يشبه إلا مارغريت:

"هذه الأغنية.. هي صرخةُ طلب مساعدة: ساعدني!

أنت فقط، أنت فقط من يمكنه ذلك،

أنت فريد.. أخيراً. للأسف

إنها أغنية مملّة.. لكنها ناجحة في كل مرة."

الشعر عند مارغريت أتوود ليس ترفًا بل ضرورة، هو الوجه الآخر لروايتها، هو القناع والصوت معًا، هو صرخة المرأة التي ترفض الغرق بصمت.

مكانة أدبية خاصة 

وُصِفَت مارغريت آتوود في صحيفة "ذا إيكونومست" بأنها كاتبة مبدعة ومتألقة، وخبيرة في النقد الأدبي. ومع ذلك، أشار المقال إلى أن بعض أفكارها في كتابها الشهير Payback: Debt and the Shadow Side of Wealth، الذي يتناول قضايا الديون وعلاقتها بمفهوم العدالة، لا تتوافق تمامًا مع مواقفها الأدبية الأخرى. 

كما كتبت آتوود عددًا من الروايات التي اعتُبرت من أدب الخيال العلمي، وقد فازت روايتها The Handmaid's Tale (قصة الخادمة) بجائزة آرثر سي كلارك الأولى في عام 1987. في البداية، رفضت آتوود تصنيف روايتها كخيال علمي، إذ قالت في تعليق لصحيفة "الغارديان" إن الخيال العلمي يقتصر على "الوحوش الكاسرة والسفن الفضائية"، وأصرت على أن تكون روايتها ضمن الأدب التأملي.

ومع مرور الوقت، اعترفت بأنها أحيانًا تكتب قصصًا من الخيال العلمي، موضحةً أن البعض يخلط بين الخيال العلمي والأدب التأملي؛ حيث يصف الأول أحداثًا غير قابلة للتحقق في الواقع، بينما يطرح الأخير سيناريوهات يمكن أن تحدث باستخدام التقنيات والوسائل المتاحة للإنسان على كوكب الأرض.

إرث مارغريت أتوود الأدبي

أصدرت مارغريت أتوود أكثر من 15 رواية، وعشرين مجموعة شعرية، وعددًا من الكتب النقدية. ومن أبرز رواياتها:

  • من أبرز رواياتها:
    • المرأة الصالحة للأكل (The Edible Woman) – 1969
    • عين القطة (Cat's Eye) – 1988
    • عروس اللص (The Robber Bride) – 1993
    • الاسم المستعار غريس (Alias Grace) – 1996
    • السفاح الأعمى (The Blind Assassin) – 2000
    • قصة الخادمة (The Handmaid’s Tale) – 1985
    • الوصايا (The Testaments) – 2019
    • أوريكس وكريك (Oryx and Crake) – 2003
    ومن أبرز دواوينها:
    • أنت سعيد (You Are Happy) – 1974
    • قصص حقيقية (True Stories) – 1981
    • صباح في البيت المحترق (Morning in the Burned House) – 1996
    • أكل النار: قصائد مختارة (Eating Fire: Selected Poems) – 1998
    • عزيزي: قصائد جديدة (Dearly: New Poems) – 2020

    مارغريت أتوود ليست فقط كاتبة، إنها ذاكرة تمشي على حافة المستقبل، وحارسة اللغة في زمن الضجيج، امرأة كتبت لنفسها أولًا، ثم وصل صوتها إلى العالم، تقول:

    "كلمة «يجب» عديمة الجدوى، تنتمي إلى عالم موازٍ."

    وهي إذ تقول ذلك، تذكّرنا أن الأدب لا يطيع الأوامر، بل يخلق عوالم موازية… تمامًا كما فعلت هي.

    فيديو .. إعلان الأديبة مارغريت أتوود عن تكملة روايتها "ذى هاندمايدز تايل"


    ما هي مقولة مارغريت آتوود الأشهر؟

    "الأفضل لا يعني أبدًا الأفضل للجميع... بل يعني دائمًا الأسوأ للبعض. لكن من يتذكر الألم بعد انتهائه؟ كل ما يبقى منه مجرد ظل، ليس في العقل حتى، بل في الجسد."

    ما هي الروايات التي كتبتها مارغريت آتوود؟

    كتبت مارغريت آتوود العديد من الروايات البارزة التي تركت أثراً كبيراً في الأدب العالمي، ومنها: "المرأة الصالحة للأكل" عام 1969، "تسطيح" عام 1972، "السيدة نبوءة" عام 1976، "الحياة قبل البشر" عام 1979، "أذى جسدي" عام 1989، "قصة الخادمة" عام 1985، "عين القطة" عام 1988، "عروس اللص" عام 1993، "الاسم المستعار غريس" عام 1996، "السفاح الأعمى" عام 2000، "أوريكس وكريك" عام 2003، "بينلوبياد" عام 2005، "عام الطوفان" عام 2009، "آدم المجنون" عام 2013، "القلب يذهب أخيراً" عام 2015، "هاغسيد" عام 2016، و"الوصايا" عام 2019 

    ختامًا؛ مارغريت أتوود ليست مجرد كاتبة؛ إنها ضمير حي يكتب بالحبر والاحتجاج، بالحكاية والمرآة، بالسخرية والغضب الصامت. في عالم يتغير باستمرار، تظل أعمالها بمثابة بوصلة فكرية وأدبية ترشد القارئ نحو الأسئلة الكبرى: من نحن؟ وإلى أين نمضي؟ إنها الكاتبة التي لم تكتفِ بتأمل الواقع، بل نقبته بأدوات الخيال، فأنجبت أدبًا يمشي على حد السكين بين الحلم واليقظة، بين الفرد والجماعة، بين الحرية والقمع. إن قراءة مارغريت أتوود ليست ترفًا أدبيًا، بل تجربة فكرية وجودية، تغرس في القارئ الشك والدهشة والرغبة الملحة في التغيير.

    اقرأ أيضاً:

    إرسال تعليق

    أحدث أقدم

    نموذج الاتصال