هاجس الأدباء: كيف يحافظ الكاتب على خيط الاتصال مع القارئ؟

هل يمتلك أدباؤنا هاجس إبقاء خيط التواصل حيًّا مع القارئ، وخلق تلك الآصرة التي لا تفتر منذ الصفحة الأولى حتى الأخيرة؟ سؤال يطلّ في وجه كل عمل أدبي حقيقي، وربما يتجدد بصيغة أخرى عند كلمة النهاية: هل نجح الكاتب في أن يُبقي القارئ مشدودًا إلى النص حتى آخر نقطة، أم تراخت الحبال، فانفرط العقد، وانقطع التواصل، وفقد الأدب مبرر شرعيته الأولى؟


هاجس الأدباء: كيف يحافظ الكاتب على خيط الاتصال مع القارئ؟
كيف يحافظ الكاتب على خيط الاتصال مع القارئ؟


هذا السؤال لا يخصّ الكاتب وحده، بل يعيدنا إلى جوهر العملية الأدبية برمتها: الأثر الذي يتركه النص في وجدان قارئه، فالأدب ليس مجرد تراكيب لغوية أو حبكات معقدة، بل هو فعل حياة، وجسر ممتد بين ذاتين: الكاتب من جهة، والقارئ من جهة أخرى.

غواية البداية واستمرارية الأثر

تؤكد الكاتبة الأميركية جومبا لاهيري أن سرّ انجذابها لأي نص يكمن في رغبتها الملحّة بقراءة الجملة التالية. هذا الشعور، الذي قد يبدو بسيطًا، هو في الحقيقة مقياس نجاح الأدب: أن يخلق رغبة لا تهدأ في الاستمرار... هنا نصل إلى السؤال الأهم: هل نجح أدباؤنا العرب في ذلك؟

الإجابة، بكل ثقة وبلا تحيز، نعم... على سبيل المثال؛ ترك نجيب محفوظ إرثًا روائيًا ظلّ وفيًّا لهذا الهاجس، فالقارئ في الثلاثية أو اللص والكلاب لا يجد نفسه مشاهدًا للحكاية، بل شريكًا في تفاصيلها، مأخوذًا بصدق الشخصيات وحيوية الحوار، حتى لا يعود قادرًا على مغادرة النص قبل أن يعرف المصير.

الرواية كعزف موسيقي

يرى مارسيل بروست أن الرواية العظيمة تشبه قطعة موسيقية، لا تقوم على عمق الفكرة وحدها بل على تدفقها العاطفي، هذه الرؤية نجدها متحققة في أدب الطيب صالح، خصوصًا في موسم الهجرة إلى الشمال، فالرواية ليست مجرد سرد عن صراع الشرق والغرب، بل سيمفونية من الأصوات الداخلية والذكريات والرموز، تجعل القارئ يظل مأخوذًا بجماليتها حتى آخر صفحة.

وبالمثل، استطاع إحسان عبد القدوس أن يحافظ على خيط الشدّ بينه وبين القارئ من خلال لغته البسيطة وجرأته في طرح القضايا الاجتماعية، فكان قارئه يشعر دائمًا أنه أمام مرآة تعكس حياته اليومية وتطلعاته.

النقد كعين ثالثة

لابد أن نعترف أن الكاتب وحده لا يكفي لضمان ديمومة نصه، فالنقد الأدبي، حين يكون موهوبًا وواعيًا، يتحول إلى عين ثالثة تضيء النصوص وتكشف جمالياتها، أو تحذر من ضعفها... وقد لعب نقاد كبار مثل العقاد ومارون عبود دورًا محوريًا في بناء جسور بين الأدب والقارئ، لأنهم لم يتعاملوا مع النصوص كمواد جامدة، بل ككائنات حيّة تستحق الرعاية والفحص.

أما النقد الأكاديمي الجاف، الذي يترجم النظريات الغربية دون روح، فيظلّ عاجزًا عن الإسهام في هذا التواصل، لأنه يُغفل جوهر النص: ذلك الأثر العاطفي والجمالي الذي يبقي القارئ على العهد مع الكتاب حتى نهايته.

الأديب والهاجس الأبدي

يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمتلك أدباؤنا اليوم هاجس إبقاء هذه الآصرة حيّة؟ الواقع يكشف عن نماذج متباينة؛ فهناك نصوص تبدو وكأنها كُتبت لإرضاء الكاتب وحده، متخمة بالاستعراض اللغوي والتنظير العقيم، بينما نصوص أخرى، كأعمال محفوظ أو عبد الرحمن منيف أو غادة السمان، تستبقي القارئ حتى آخر صفحة، لأنها كتبت بصدق إنساني، لا برغبة استعراضية.

الأدب كآصرة وجودية

إن ديمومة الاتصال بين الكاتب والقارئ ليست ترفًا جماليًا، بل هي شرط وجود الأدب نفسه، فإذا فقد النص هذا الخيط المشدود، تحوّل إلى حبر على ورق، أما إذا حافظ عليه، فإنه يصبح حياة موازية، يدخلها القارئ طوعًا، ويخرج منها مختلفًا، كأنما عبر تجربة وجودية جديدة.

وهكذا، يبقى الأدب العظيم هو ذاك الذي لا تنقضي صلته بالقارئ مع طيّ الصفحة الأخيرة، بل يظلّ عالقًا في الذاكرة والوجدان، يُعاد قراءته كأنما هو عزف أبدي يتردد في أصداء الروح.

اقرأ أيضًا:

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال