من ذاكرة الأدب .. الطيب صالح يتحدث عن نجيب محفوظ

الطيب صالح يتحدث عن لقاءه الوحيد بنوبل الأدب

كتب الطيب صالح : "رحم الله نجيب محفوظ .. عاش أربعة وتسعين عاماً، وكتب أكثر من خمسين رواية ومجموعة قصصية. أمهله، القدر حتى أكمل مشروع حياته وبلغ الذروة في عطائه، وضع لنفسه ولأمته مجداً شامخاً باذخاً".

الطيب صالح
الطيب صالح 

كان أكثر ما يعجبني فيه النظام الصارم الذي ألزم نفسه به، يصحو في موعد محدد، وينام في موعد محدد، يؤدي عمله الوظيفي، وكان دائما يعمل في وظيفة رسمية، ويجلس للكتابة كل مساء في وقت محدد.

حارات السيدة زينب 

ذكر الطيب محمد صالح عن نجبب محفوظ أنه كان يقابل أصدقاء في حارات السيدة زينب والحسين التي عرفها وارتبط بها، نذر نفسه كلية للكتابة، طوال أيام الأسبوع إلا يوماً واحداً، كما نعلم من أصدقائه المقربين أمثال الأستاذ رجاء النقاش، والأستاذ جمال الغيطاني، كان الأستاذ نجيب يفرغ نفسه للكتابة عدداً محدداً من الساعات، أي إنسان جرب صناعة الكتابة، يعرف كم هو مؤلم وممض هذا النضال اليومي مع عالم التصورات والأفكار.

من نذر نفسه للفن

أوضح الطيب أنه لا يوجد في الأدب العالمي كله، فيما أعرف، كاتب نذر نفسه للفن وجعل حياته كلها وقفاً عليه، إلا كاتب واحد، هو الروائي الفرنسي (بلزاك) الذي كان يوصف بأنه (ماكينة كتابة). لذلك لم يكن عجيباً أن الناقد العربي النابغة الراحل إدوارد سعيد، شبه نجيب محفوظ ببلزاك، وأضاف إليه فلوبير وتشارلز دكنز.

بلزاك ودكنز احترقا مبكراً في محراب الفن وماتا في أوائل الخمسينيات من العمر، كانت حياة كل واحد منهما فوضى، بلزاك لم يتزوج ولم ينجب، وشارلز ديكنز عاش حياة عاطفية ممزقة كل واحد منهما دفع ثمناً باهظاً للإنتاج العظيم الذي تركه.

ثلاثة كتاب عظماء الموهبة

واصل الأديب الطيب صالح تدوين رؤياه الأدبية قائلاً:
إن في الأدب العربي المعاصر، يخطر على بالي ثلاثة كتاب، كان كل واحد منهم عظيم الموهبة لكنه لم ينتج بالقدر الذي بشرت به موهبته.
  1. الكاتب الأول هو الراحل/ محمود المسعدي التونسي،كان في تقدير أغلب العارفين ذا موهبة عظيمة، لكنه لم يشأ أن يدفع الثمن الذي يقتضيه الفن، ودخل في معترك السياسة والحياة العامة في تونس، وتوفي عن أكثر من تسعين عاماً، ولم يترك سوى أربعة أو خمسة أعمال.
  2. الثاني هو الكاتب المصري الراحل/ يحي حقي، كان نادر الموهبة. لكنه اختار ألا يلتزم بالفن التزاما كاملاً، ويستجيب لندائه استجابة قاطعة، كاتب يكتب حين يحلو له، كتب أشياء قليلة نسبياً لكنها عظيمة الجمال، وعاش حياة خصبة متنوعة النموذج.
  3. الثالث هو الراحل/ يوسف إدريس ، كان بإجماع الناس، صاحب موهبة عظيمة. لكنه لم يحسن استغلالها وبدد جزءاً كبيراً منها في حياة لم تخل من الفوضى والتهور، ورغم ذلك ترك وراءه إنتاجاً وإن كان قليلاً نسبياً، فهو إنتاج فيه سمات العبقرية. 

لقاء الطيب صالح بـ نجيب محفوظ 

عن اللقاء الوحيد الذي جمع الأديب السوداني الطيب صالح بنجيب محفوظ قال:
  • التقيت بالراحل/ نجيب محفوظ مرة واحدة، وكان ذلك في القاهرة أوائل الستينيات، التقيت به في ندوة (الحرافيش) الشهيرة، كانوا يجتمعون مساء كل خميس، كما أذكر، في دار حسن كامل – إذا لم تخني الذاكرة – كان كاتباً موهوباً، ولكنه ترك الكتابة بعد عملين أو ثلاثة وتفرغ لمهنة المحاماة.
  • ذهبت مع (منسي بسطاوروس)، وخطر لي فيما بعد أن (منسي) كعادته ربما قد ذهب إلى ندوتهم متطفلاً، واقتحمها عليهم اقتحاماً، كان صديقه من الموجودين الراحل/ صلاح جاهين، وكان أكثرهم تلطفاً معنا وحفاوة بنا، وكانوا كلهم في الواقع لطيفين كرماء، لكنني أحسست أنهم لم يكونوا على سجيتهم تماماً.
  • كان ذلك الوقت في مصر، في الستينيات، زمن توجس وحذر وارتياب، وكنت أنا أعمل يومئذ في هيئة الإذاعة البريطانية، ولم أكن معروفاً بأنني كاتب إلا لقلة من الناس في مصر.
  • كان (منسي) قد عاد إلى القاهرة من لندن منذ وقت قصير ووجد لنفسه عملاً في الجامعة الأمريكية، وكان يتعمد الحديث بلغة إنجليزية متقعرة، ويسعده جداً أن يثير الشكوك حول نفسه ولا يبالي حتى إذا قيل أنه جاسوس.
  • كانت مجموعة صغيرة أذكر منهم غير صاحب الدار والأستاذ نجيب محفوظ والأستاذ صلاح جاهين، أذكر الممثل الشهير أحمد مظهر، كان يوجد شخصان آخران ضاع مني اسماهما.
  • أجلسوني كرمأ منهم، بجوار الأستاذ نجيب، إذ أنني كما قلت لم أكن كاتباً معروفاً، وكان (منسي) واقفا طول الوقت، يتحدث بلهجة خطابية، بالعربية أحيانا، وبالإنجليزية في أغلب الأحيان، كان يثير شغباً عظيما ويريد، كما هو واضح أن يترك أثرا قوياً. وكان الأستاذ نجيب قليل الكلام.
  • الشخص في تلك المجموعة الصغيرة، الذي كان يعرف (منسي) أكثر ويحبه، وعارف للعبة التي يلعبها (منسي) كان صلاح جاهين أنا أيضا كنت أعرف صلاح جاهين، بقدر أقل من (منسي)، وقد عرفته أكثر فيما بعد وأحببته.
  • أردت أن أستفز الأستاذ نجيب للكلام، وكنت قد قرأت لتوي روايته (اللص والكلاب). قلت له إنني أعجبت بها، ولم يبد عليه أنه اهتم كثيراً لقولي، كما ظننت، قلت له إنها ذكرتني بمسرحية (هاملت) لشكسبير، أجابني فوراً بشيء من الحزم، وكأنه استيقظ من غيبوبة: (أزاي بقى؟ دي كلها أكشن .. هاملت ما فيهاش أكشن خالص).
  • وقبل أن أقول شيئا، سارع (منسي) فالتقط خيط الكلام، وأعطاهم محاضرة عن أن (هاملت) مليئة بالأكشن. وكان يتحدث باللغة الإنجليزية في الغالب، ويضرب أمثلة من مسرحية شكسبير، بعضها حق وبعضها باطل.
  • ولما أطنب وأطال والأستاذ الكبير نجيب محفوظ صامت لا يقول شيئا، قال له صلاح جاهين بلطفه المعروف: (إحنا مش قد الإنجليزي دا كله يا دكتور!).
  • وهكذا أضاع عليّ منسي متعة الاستماع إلى الأستاذ الكبير في تلك الليلة التي لم تتكرر لسوء الحظ، والأستاذ نجيب كما يقول كل من يعرفونه محدث بارع وصاحب طرافة ونكتة.
واختتم قائلاً: إنني، بما في طبعي من الحياء، غلب علي الحرج، إن (منسي) فرض نفسه وفرضني على أولئك القوم الكرام في خلوتهم، مثل الضيوف المتطفلين الذين يصفهم الجاحظ في كتابة (البخلاء)، أما (منسي) فلم يكن يبالي، كان يحس أن له دعوة مفتوحة على مائدة الحياة، أينما تكون وعند من تكون.

الطيب صالح - عبقري الأدب السوداني

يعتبر الطيب صالح واحدًا من أعظم الأدباء السودانيين والعرب في القرن العشرين، وُلد الطيب محمد صالح أحمد في عام 1929 في قرية كرمكول بولاية الشمالية بالسودان، نشأ في بيئة تقليدية ريفية، وقد أثرت هذه البيئة على أعماله الأدبية بشكل كبير.

المسيرة التعليمية والمهنية

تلقى الطيب صالح تعليمه الأولي في السودان، ثم انتقل إلى المملكة المتحدة حيث أكمل دراسته الجامعية، بعد ذلك، عمل في عدة مؤسسات إعلامية مثل هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، وعمل أيضاً كمستشار لوزارة الإعلام في قطر ومنظمة اليونسكو.

أعماله الأدبية

أشهر أعمال الطيب صالح هو رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" التي نُشرت في عام 1966، تعتبر هذه الرواية واحدة من أهم الأعمال الأدبية في الأدب العربي الحديث، وقد تُرجمت إلى العديد من اللغات. تتناول الرواية موضوعات الهوية، الاستعمار، والتصادم الثقافي بين الشرق والغرب من خلال قصة بطلها مصطفى سعيد، الذي يذهب إلى أوروبا للدراسة ثم يعود إلى السودان محملًا بتجارب مريرة.

كتب الطيب صالح أيضًا عدة روايات وقصص قصيرة أخرى، منها "عرس الزين" و "دومة ود حامد"، تتسم كتاباته بالأسلوب الأدبي الفريد، الذي يمزج بين الواقعية والرمزية، وبإحساس عميق بالثقافة والتراث السوداني.

التراث الثقافي والتأثير

تعد أعمال الطيب صالح مصدر إلهام للكثير من الأدباء والكتاب في السودان والعالم العربي، استطاع من خلال أعماله أن ينقل صورة حية عن المجتمع السوداني وقضاياه، وأن يعبر عن تجارب إنسانية مشتركة بأسلوب أدبي راقٍ.

بالإضافة إلى تأثيره الأدبي، كان الطيب صالح رمزًا للتواصل الثقافي بين العالم العربي والغرب، حيث عاش لفترة طويلة في الغرب، لكنه ظل مخلصًا لجذوره الثقافية، مما جعله جسرًا بين الثقافتين.

وفاته وإرثه

توفي الطيب صالح في عام 2009، لكنه ترك وراءه إرثًا أدبيًا كبيرًا يستمر في إلهام القراء والكتاب، تظل أعماله تحتل مكانة بارزة في الأدب العربي، وتعد مرجعًا هامًا لدراسة التفاعلات الثقافية والإنسانية في العصر الحديث.

في الختام، يُعتبر الطيب صالح منارة من منارات الأدب السوداني والعربي، استطاع من خلال إبداعاته أن يعبر عن قضايا إنسانية عميقة بأسلوب أدبي مميز، وسيظل إرثه الأدبي حاضرًا في ذاكرة الأجيال القادمة.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال