جورج أورويل: تأملات بين النقد والأدب والسياسة
تناولنا في المقالة السابقة الأهمية الخاصة لمقالة "داخل الحوت" في كتاب جورج أورويل لماذا أكتب؟ - حيث أظهر الكاتب قدرة فريدة على ممارسة النقد بأسلوب متوازن، خاصة عند الحديث عن نصوص أدباء آخرين.![]() |
جورج أورويل |
جورج أورويل بين الأدب والسياسة
جورج أورويل لم يكن مجرد كاتبًا أدبيًا فقط، بل كان ناقدًا سياسيًا في جوهره، حيث كانت السياسة دائمًا حاضرة في كتاباته، إذ ربط أسماء الكُتاب بتوجهاتهم السياسية، سواء كانوا أعضاء في أحزاب سياسية أم لا.كانت السياسة بالنسبة لـ أورويل أكثر من مجرد فكرة؛ بل كانت أشبه بنشوة عقلية تقوده إلى تصنيف الكتّاب ضمن إطار أيديولوجي -معين- دون رحمة.
في الأدب قدم أورويل في كتاباته تأريخًا نقديًا زاخرًا ومليئًا بالتحليل تجاه مجموعة واسعة من نصوص الأدب الإنجليزي، فأعماله تسعى إلى تقديم مادة ثرية للقراء والباحثين على حد سواء، مع تلميحات سياسية وفكرية تتجاوز حدود الأدب.
داخل الحوت: رمزية الأدب والواقع
اختيار أورويل لعنوان "داخل الحوت" لم يكن اعتباطيًا، بل جاء محمّلًا بالرمزية والذكاء، فالمقالة تناقش علاقة الكاتب بالواقع، وتسائل ما إذا كان يجب على الكاتب أن يكون ثائرًا أم مستسلمًا.في هذا السياق، يوجه جورج أورويل رسالة لأي كاتب قائلاً:
- ادخل داخل الحوت، سلّم نفسك لتحولات العالم، توقف عن محاربتها، اقبلها وسجّلها.
العنوان يبدو وكأنه مستوحًى من قصة النبي يونس عليه السلام، حيث يعكس فكرة التعايش مع الظروف القاسية إلى حين الوصول إلى بر الأمان أو الخلاص.. ولو كان العنوان "في بطن الحوت" لربما كان أكثر ملاءمة في استحضار هذا البعد التاريخي والديني.
الأدب الشائع: بين الجودة والرواج
ناقش جورج أورويل في مقالته "كتب جيدة رديئة" فكرة الأدب الشائع أو الرائج، حيث يرى أن الكتب التي تحقق شعبية واسعة ليست بالضرورة ذات قيمة فنية كبيرة، بل قد تكون نصوصًا بسيطة استفادت من ضربة حظ أو ظروف تاريخية معينة.يشير أورويل إلى أن العناوين الجذابة، أو المواضيع المثيرة، التي قد تساهم في انتشار هذه الكتب، رغم افتقارها أحيانًا إلى العمق الفني.
هذا الموقف تجاه الأدب الرائج جعل أورويل ينظر بحذر إلى الروايات الأكثر مبيعًا (bestsellers)، وربما يكون ذلك انعكاسًا لوجهة نظر نقدية ترفض التهافت الجماهيري الذي قد يعظّم نصوصًا لا تستحق.
أورويل وتولستوي: صدام ذاتي
في مقالته "ليو تولستوي والبهلول"، يظهر أورويل في صورة مختلفة تمامًا؛ فهو هنا مدافع متحمس عن الأدب الإنجليزي، خاصة ضد انتقادات تولستوي لشكسبير، لكن هذا الدفاع لم يكن موضوعيًا، بل بدا مشحونًا بعبارات ذاتية ونقد لاذع يعكس تعصبًا قوميًّا، حيث اتهم تولستوي بالغرور والفساد، رغم أن سيرة الأديب الروسي الشخصية تُظهر عكس ذلك.سعى جورج أورويل بكل ما أوتي من قوة في التعبير أن يُحاجِجَ تولستوي ويحتجَّ لشكسبير، حتى راح يستعمل عبارات شديدة الأنانية والذاتية، ويعمل على وصم تولستوي بكل مساوئ الأخلاق والفساد والتعجرف والظلم.
لا يرى سوى نصف العالم
حين نختم الكتاب بكل ما فيه من مقالات نقدية وتافهة، ومن معلومات وأسماء شخصيات، وكتب ومذاهب وتواريخ وسياسات، وأحوال نفسية وتأملات فلسفية وأفكار مختلفة؛ سنندهش أن الكاتب كان لا يرى سوى نصف العالَم، إذْ إن أورويل يبدو عديم الاطّلاع تمامًا على كل ما كتبه المشارقة في الأدب والسياسة والفكر والفلسفة.
نظرة محدودة للعالم
بالرغم من غنى أورويل الأدبي والنقدي، إلا أن كتاباته تكشف عن محدودية اطلاعه على الأدب الشرقي والإسلامي، يبدو أنه كان حبيس الإطار الغربي، متجاهلًا الإنتاج الفكري والثقافي للمشارقة، خاصة في زمن كانت فيه المنطقة تمر بمرحلة انحطاط حادة.جورج أورويل .. هل كان نصف أديب عظيم؟
قليل من المفكرين والأدباء والسياسيين في القارة الأوروبية استطاعوا التخلص من التمركز الأوروبي، واستفاقوا من غفوتهم (مثل غوته وفولتير).. أما الغالبية، سواء عمدوا أو غير عمد، فقد استمروا في الدوران حول أنفسهم، حتى أصبحت كلمة "العالم" أو "الدنيا" في أدبيات الأوروبيين، وفي حكايات عجائزهم ليلاً، مرادفًا لكلمة "أوروبا" ذاتها.
جورج أورويل لم يكن استثناءً، رغم أنه كان من المفترض أن يكون كذلك؛ أولًا لمكانته الأدبية، وثانيًا لرحلاته إلى الهند وشمالي أفريقيا.. كان من المفترض أن يقرأ ما أنتجه النصف الآخر من العالم، ولكنه بدلًا من ذلك، تجاهل مؤلفات الجاحظ والمعري وابن حزم وابن رشد والتوحيدي وابن تيمية، وفضل أن يؤدي دور ربة المنزل، ويصف للقارئ كيفية تحضير الشاي بلا سكر.
نعم، كتب جورج أورويل مقالًا عن غاندي، لكنه كان مقالًا عن حياته الشخصية وعاداته الغذائية أكثر من كونه عن فكره ومصادره.. وعندما كتب عن مراكش، كان يصف بحزن معاناة الحمير التي تحمل أثقال الأهالي، والتي تشمل الحطب والخردوات التي يبيعونها.
وبنفس الأسلوب، تحدث عن معاناة الفيلة في الهند.. لم يكن الاضطهاد الذي تعرض له السكان في الهند من قبل الاحتلال البريطاني، أو في شمال أفريقيا من قبل الاحتلال الفرنسي، ذا أهمية كبيرة بالنسبة له مقارنة بمعاناة الحمير والفيلة
سيظل الأديب والمفكر ناقصًا ما لم يرَ العالم بأسره.. وهكذا كان جورج أورويل: نصف أديب عظيم!
ختامًا، إن أعمال جورج أورويل تقدم مزيجًا فريدًا من النقد الأدبي والتأمل الفلسفي والتحليل السياسي، مما يجعلها مادة غنية للبحث والاستكشاف، ومع ذلك، فإن افتقاره إلى الموضوعية أحيانًا، وانحيازه الثقافي، قد ينتقصان من عمق رؤيته.. بينما يبدو "داخل الحوت" تعبيرًا عن فلسفته في الكتابة والحياة، وفي المقابل تبقى أعماله الأخرى انعكاسًا لشخصية مركبة تجمع بين الأديب والناقد والسياسي.
اقرأ أيضاً:
التسميات
مقالات أدبية