وفاة ماريو فارغاس يوسا .. الكاتب الذي قال الحقيقة من خلال الأكاذيب

رحل عن عالمنا الكاتب البيروفي الكبير ماريو فارغاس يوسا، الحائز على جائزة نوبل في الأدب لعام 2010، عن عمرٍ ناهز الثمانية وثمانين عامًا، بعد رحلة أدبية ثرية ومتفردة جعلته من أبرز وجوه الأدب العالمي الحديث. 


ماريو فارغاس يوسا
ماريو فارغاس يوسا


اشتهر يوسا بأسلوبه الواقعي السحري، وبقدرته الفذة على تحويل الحياة اليومية إلىرحل  سرد مشوق ينفذ إلى جوهر الواقع من خلال الخيال، في مزيجٍ أدبي فريد من نوعه.

ماريو فارغاس يوسا... سيرة كاتب عاش الحياة بالقلم

وُلد ماريو فارغاس يوسا في بيرو عام 1936، ونشأ في بيئة اجتماعية وسياسية مضطربة، انعكست في مجمل أعماله، كان مفتونًا منذ بداياته بروائيي الملحمة المعاصرة مثل أندريه مالرو، كما تأثر بشدة بكبار الروائيين الأمريكيين مثل إرنست همنغواي وسكوت فيتزجيرالد وجون دوس باسوس، غير أن التأثير الأعمق في حياته الأدبية كان من نصيب ويليام فوكنر، الذي منحه مفاتيح الواقعية المركبة في السرد الروائي.

الأدب كحياة... والحياة كرواية

كان يوسا يرى أن الأدب ليس وسيلة للهروب من الواقع، بل وسيلة لفهمه بشكل أعمق، وكان يردد دومًا: 

"أريد أن أكون كاتبًا واقعيًا، ولكن كاتبًا يروي ما هو غير عادي في الواقع من خلال خلق شخصيات قادرة على تجاوز حدودها."

في روايته الشهيرة "العمة جوليا والكاتب" (1977)، جعل من بيدرو كاماتشو، كاتب المسلسلات الإذاعية، نموذجًا لكيفية اختراق الواقع بالأدب، بل جعله ينصب مكتبه في الشارع كي يتماهى حرفيًا مع الحياة اليومية.

الحقيقة من خلال الأكاذيب... فلسفة يوسا الأدبية

آمن يوسا أن الرواية الجيدة لا تكذب، بل تقول الحقيقة بطريقتها الخاصة. يقول: 

"الرواية الجيدة تقول الحقيقة دائمًا، والرواية السيئة تكذب."

 وهكذا فهم الأدب كمرآة مشوهة لكنها تكشف الواقع بوضوح أكبر، هذه الفكرة اختصرها ببلاغة في عنوان إحدى مجموعاته النقدية "الحقيقة من خلال الأكاذيب"، والتي تتقاطع تمامًا مع رؤى دوستويفسكي حول دور الأدب في قول الحقيقة بوسائل غير مباشرة.

"حفلة التيس"... نموذج عن الطغيان والكذب والواقع

من بين أبرز أعمال يوسا، تبرز رواية "حفلة التيس" التي تناول فيها شخصية الطاغية الدومينيكي تروخيو، عبر سرد أدبي جسّد ثلاثين عامًا من الاستبداد، مزج يوسا بين الوقائع التاريخية والخيال الروائي ليكشف لنا أن الحقيقة في الأنظمة الاستبدادية قد تكون أقرب إلى الكذب، بل إن الكذب ذاته يصبح واقعًا يُفرض على الجميع.

أدب السيرة والنقد والتاريخ... مشروع حياة متكامل

لم يكن يوسا مجرد كاتب روايات، بل كان مثقفًا موسوعيًا، يرى في الأدب وسيلة للارتقاء بالإنسان وتحقيق الخلاص الروحي، كتب في النقد الأدبي، والسياسة، والسيرة الذاتية، وترك عشرات الكتب التي أصبحت مرجعًا في الأدب العالمي. 

وعلى خطى قدوته فيكتور هوجو وجوستاف فلوبير، كرّس يوسا حياته كلها للأدب، حتى صار تجسيدًا حيًا لفكرة أن الكتابة والحياة هما وجهان لعملة واحدة.

الأحلام كحقيقة مطلقة

آمن يوسا بأن الأحلام هي الحقيقة الوحيدة في الحياة، وكان يرى أن على الإنسان أن يعيش وفق ما يحلم به، لا ما يُفرض عليه، هذا الإيمان العميق بالخيال جعل من أدبه قوة مضادة لكل أشكال القمع والرتابة، ووسيلة لاكتشاف الذات والواقع والمصير.

الجوائز وأبرز المؤلفات: مجد أدبي مستحق

حصد ماريو فارغاس يوسا خلال مسيرته الأدبية الحافلة العديد من الجوائز العالمية المرموقة، كان أبرزها جائزة نوبل في الأدب عام 2010، والتي منحت له "لرسمه خرائط لبنى السلطة ولمقاومته، ولصورته الواضحة وثرائه اللغوي". 

كما حصل على جائزة سيرفانتس، وجائزة أمير أستورياس للآداب، بالإضافة إلى وسام جوقة الشرف الفرنسية، وجائزة بلانيتا، وهي من أكبر الجوائز الأدبية في العالم الناطق بالإسبانية.

أبرز أعمال ماريو فارغاس يوسا

المدينة والكلاب (1963): روايته الأولى التي أثارت جدلًا كبيرًا وكشفت عن موهبته الأدبية.

البيت الأخضر (1966): واحدة من أعقد رواياته من حيث البناء السردي.

من قتل بالومينو موليرو؟ (1986): رواية بوليسية تتناول الفساد والقهر الطبقي.

العمة جوليا والكاتب (1977): عمل سيرة ذاتية ممتع وساخر.

حفلة التيس (2000): رواية سياسية جسدت عهد الطاغية تروخيو.

بالإضافة إلى تاريخ مايتا، دفتر دون ريغوبرتو، رسالة إلى روائي شاب، وأعمال أخرى شكلت جزءًا من فكره الأدبي ونظرته للعالم

أشهر أقوال ماريو فارغاس يوسا: الأدب كوصية إنسانية

عرف عن يوسا كثافة وعمق عباراته التي مزجت بين الفلسفة والحياة، وكانت كلماته في كثير من الأحيان مانيفستو أدبيًا يختصر مسيرته، ومن أشهر اقتباساته:

"الرواية الجيدة تقول الحقيقة دائمًا، والرواية السيئة تكذب."

"ما هي الواقعية يا سادة؟ ما أفضل طريقة لصنع فن واقعي من التماهي المادي مع الواقع؟"

"الحياة والكتابة هما العملية ذاتها."

"في زمن الرعب، تصبح الأكاذيب حقيقة لا تُطاق."

"أريد أن أكون كاتبًا واقعيًا، ولكن أروي ما هو غير عادي في الواقع."

"الأحلام ليست ترفًا، إنها الحقيقة الوحيدة التي نملكها."

"الكتب هي الطريقة التي نحول بها الألم والمعاناة إلى معرفة وتحرر."

كلماته لم تكن مجرد تعبيرات أدبية، بل كانت مواقف فكرية وفلسفية تشي بشغف عارم بالأدب والحرية والإنسان.

خاتمة

برحيل ماريو فارغاس يوسا، يخسر الأدب العالمي صوتًا أدبيًا نادرًا، كان يرى في القلم وسيلة لفهم الوجود، وفي الرواية مرآة للواقع، حتى وإن كانت مكسورة، سيظل اسمه محفورًا في ذاكرة الأدب، وستبقى كتبه تنبض بالحياة، شاهدة على مشروع أدبي قلّ نظيره، ومؤمن بأن قول الحقيقة، حتى بالكذب، هو مهمة الأدب الأسمى.

اقرأ أيضاً:

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال