في زحام القرن العشرين الثقافي، حيث التقى الأدب بالفن، والفكر بالتمرد، وقفت جيرترود شتاين (1874-1946) شامخةً، امرأةً حرّة، كاتبة بلا قيد، وأسطورة صنعت من ذاتها سيرة إبداعية، ومن حياتها صالونًا مفتوحًا لتاريخ الحداثة.
![]() |
| جيرترود شتاين |
ففي كتابها الصادر عام 2024 بعنوان "الماضي هو فصلي المفضل"، تعيد الكاتبة الفرنسية جوليا كيرنينون إحياء هذه الشخصية المحورية، لتقدّمها من جديد كامرأة تحدّت النظام الأدبي الذكوري، وأسست مفهومًا جديدًا للبطولة الروائية.
بين باريس والماضي: شتاين بوابة الحرية
حين انتقلت جيرترود شتاين إلى باريس عام 1903، لم تكن تعرف أنها ستتحوّل إلى مرجعية أدبية وفنية لعصر بأكمله، حيث استقرّت في العاصمة الفرنسية حتى وفاتها، وفتحت بيتها وصالونها في شارع فلوروس، إذ التقى كبار الفنانين والكتاب: بيكاسو، ماتيس، براك، همنغواي، جيمس جويس، إزرا باوند، أبولينير، وفيتزجيرالد.
هناك، وُلدت ملامح الحداثة، وهناك صاغت جيرترود ستاين وصفها الشهير: "الجيل المفقود"، الذي أطلقته على أدباء ما بعد الحرب العالمية الأولى.
الكتابة كحياة: الذات كأساس للبطولة
في رؤية جوليا كيرنينون، لا تنفصل الكتابة عند جيرترود شتاين عن الحياة، قالت عنها:
كانت تمارس الأدب كما تعيش، بلا اعتذار، بلا تقيّد، وبلا خشية من كسر القوالب.. كانت ترى في الأدب امتدادًا للذات، طريقة لترتيب الذكريات، لا كما حدثت، بل كما تُروى.
في هذا السياق، تناولت كيرنينون كتاب شتاين الشهير "السيرة الذاتية لأليس بي. توكلاس"، الذي كتبته عن رفيقة حياتها، والذي أصبح جواز عبورها إلى الشهرة الواسعة.
وفي سيرة شتاين، كما ترويها كيرنينون، تنقلب الأنثى من متلقٍ إلى فاعل، ومن مُلهَمة إلى مُبدِعة، إذ أعادت تعريف دور المرأة في الأدب والفن، لا كموضوع بل كصانعة للأفكار والتحولات، وهي التي احتضنت بيكاسو في بداياته، وساعدته على اكتشاف التكعيبية، وامتلكت أكثر من 150 لوحة له، كما كانت أول من اقتنى أعمال ماتيس.
![]() |
| جوليا كيرنينون |
شتاين في عيون كيرنينون: الأمان في الكتب
ما الذي دفع جوليا كيرنينون، وهي من أبرز الأصوات النسوية الجديدة في الأدب الفرنسي، إلى العودة إلى جيرترود شتاين؟ الجواب يكمن في الذاكرة الطفولية. فقد نشأت كيرنينون في بيت محوره الكتب، وكانت والدتها تردّد أمامها عبارات بقيت محفورة في ذاكرتها، مثل:
"هذه الوردة وردة، وهي وردة"
هي جملة شهيرة لشتاين. من هنا بدأ التماهي.
في كتابها، تبوح كيرنينون بأن المكتبة كانت مكانها الآمن في العالم، المكان الوحيد الذي شعرت فيه بأنها تستحق الحياة، وحين أهدتها والدتها آلة كاتبة في سن الخامسة، بدا وكأن المسار قد كُتب مسبقًا: الكتابة ستصبح قدرها، والقراءة خلاصها.
النسوية والتمرد على السرديات الذكورية
في فصول الكتاب، تفتح كيرنينون جرح الأدب التقليدي الذي حبس المرأة في أدوار تراجيدية، كما في "مدام بوفاري" لفلوبير أو "آنا كارينينا" لتولستوي.
وتطرح مع شتاين بديلًا روائيًا جديدًا، لا تُعاقب فيه المرأة على حريتها، ولا تموت في نهاية درامية، بل تخلق لنفسها بطولة خاصة، بلغتها، وشروطها، وذاكرتها.
تقول كيرنينون:
"يمكننا أن نرفض البنية السردية والاجتماعية المفروضة علينا. يمكننا أن نؤسس شكلاً جديداً من البطولة، لم تُخترَع له الكلمات بعد"
أبرز أعمال جيرترود شتاين
1. السيرة الذاتية لأليس بي. توكلاس (1933)
نافذة ذكية على حياة النخبة الثقافية في باريس، بأسلوب ساخر وغير تقليدي.
2. أزرار رقيقة (1914)
عمل شعري تجريبي يتحدى بنية اللغة والمعنى، ويُعد من علامات الحداثة الأدبية.
3. ثلاث حيوات (1909)
قصص قصيرة عن نساء من الطبقة العاملة، بأسلوب بسيط يخفي عمقًا نفسيًا وإنسانيًا.
4. صنع الأمريكيين (1925)
رواية فلسفية عميقة، تُجسد الهوية الأمريكية بأسلوب تجريبي متكرر.
5. محاضرات في أمريكا (1935)
رؤى شتاين الفكرية حول الأدب والفن واللغة، تُعد مرجعًا مهمًا لفهم الحداثة.
6. سيرة الجميع الذاتية (1937)
تأملات في الشهرة والحياة، بأسلوب خفيف مليء بالملاحظات الذكية.
7. باريس، فرنسا (1940)
كتاب تأملي عن باريس من وجهة نظر أمريكية مغرمة بالثقافة الفرنسية.
هل تعلم؟
كانت جيرترود شتاين تُكرر الكلمات عمداً لا تضعف المعنى بل لتُكثّفه. أرادت للغة أن تكون مادّة محسوسة، لا مجرّد أداة.
أبرز أقوال واقتباسات جيرترود شتاين
- الوردة هي وردة هي وردة هي وردة.
- ليس هناك هناك هناك.
- أنت لست مبدعًا إذا فعلت ما فعله الآخرون من قبل.
- كلنا نكتب كما نعيش. ما نحن عليه يتسرب من بين الكلمات.
- الفن ليس تكرارًا للحياة، بل طريقة لفهمها.
- العبقرية لا تكمن في الفكرة الجديدة، بل في النظرة الجديدة للأشياء القديمة.
- الكتابة الحقيقية لا تقول شيئًا، بل تجعل القارئ يشعر بكل شيء.
- يبدأ الحداثي الحقيقي عندما لا يخاف من أن يكون غريبًا.
- أحيانًا، الطريقة الوحيدة لفهم شيء ما... هي أن نراه للمرة الأولى مجددًا.
- اللغة ليست وسيلة للتواصل فقط، بل وسيلة للتفكير.
- الكتابة ليست كتابة حتى تُقرأ بصوتٍ عالٍ.
- إذا كنت تستطيع القيام بشيء ما مرة واحدة بطريقة معينة، فبوسعك فعلها دائمًا.
- الفن ليس ما تراه، بل ما تُمكِّن الآخرين من رؤيته.
- الفرق بين النثر والشعر هو أن النثر يجعلك تفكر، أما الشعر فيجعلك تشعر.
- من المستحيل أن تُعبّر عن شيء جديد باستخدام لغة قديمة دون أن تُعيد اختراعها.
- في كل لحظة نعيشها، هناك شيء لم نكتشفه بعد، تلك هي متعة الحياة.
- أنا أكتب من أجل نفسي ومن لا يُعجبه ذلك، فليكتب لنفسه.
- عندما لا يقول أحد الحقيقة، يبدأ الكاتب في خلقها.
- أنا لست مغرمة بالكتابة، لكنني مغرمة بما تفعله بي الكتابة.
- الوضوح ليس هدفًا في الكتابة، بل نتيجة ثانوية للفكر الحقيقي.
- أنا لست امرأة كاتبة، أنا كاتبة فقط.
- التقاليد ليست شيئًا نُقلد، بل شيء نُحوِّله.
- الطريقة الوحيدة لخلق شيء جديد هو أن تنسى ما تعلّمته عن الأشياء القديمة.
- العبقرية أن تفعل الشيء الصحيح عندما لا يعرف أحد أنه الشيء الصحيح.
- الحياة تكتب نفسها عندما لا نتدخل كثيرًا.
شتاين: إرثٌ يتجدد
جيرترود شتاين كانت ظاهرة. امرأة سبقت عصرها، صاغت لغة تجريبية تمزج الشعر بالنثر، والفن بالفلسفة، فتحت نوافذ أمام أجيال من الكاتبات والكتّاب، واليوم، بفضل كيرنينون، تعود شتاين لا كأيقونة فنية فقط، بل كرفيقة درب لكل امرأة تسعى إلى حرية الكتابة والوجود.
وكأن جيرترود شتاين، حين كتبت عبارتها الشهيرة "الوردة وردة، وهي وردة"، لم تكن تعبّر عن جمال العالم فقط، بل عن بساطة الحقيقة التي تخفي وراءها قوة، وعن وضوح الذات حين تعثر على صوتها في الزحام.
اقرأ أيضاً:
- نظرة حول كتاب الماضي فصلى المفضل
- عبد المنعم مدبولي | الفنان الشامل الذي أسّس مدرسة "المدبوليزم"
- فيلم F1 .. سباق نحو المجد يعيد الحياة إلى الشاشة الكبيرة

