في صباح السبت، السادس والعشرين من يوليو 2025، أسدل زياد الرحباني الستار على فصل أخير من حياته، تاركًا خلفه موسيقى لا تزال تتردد في الذاكرة، ونكاتًا لاذعة معلقة في فضاء لم يعد كما كان.
![]() |
| زياد الرحباني |
كان زياد الرحباني ظاهرة ثقافية ومرآة مشروخة لزمن عربي مأزوم، كتب فيه العبث بلغته، وغنّى الفلسفة بصوته، وجعل من اليومي مسرحًا أسطوريًّا.
هذا المقال لا يرثي زياد، بل يحاول أن يقترب من لغزه، أن يفهم الرجل الذي خاض الحياة كمشهد طويل، تتداخل فيه السخرية بالعطب، والوجع بالجمال.
ابن الأسطورة
ولد زياد الرحباني في 1 يناير 1956 في بلدة أنطلياس، شمال بيروت، وهو الابن البكر للأسطورة السيدة فيروز والموسيقار عاصي الرحباني، أحد أعمدة الأخوين رحباني.
نشأ زياد في بيت فني استثنائي، محاطًا بالموسيقى والشعر والمسرح منذ نعومة أظافره، لكن رغم هذا الإرث الثقيل، لم يخضع له بالكامل، بل قرر مبكرًا شق طريق فني خاص به، اتسم بالتمرّد والاستقلال.
أبدى زياد ميولًا مُبكرًا نحو النقد والعبث والسخرية السياسية، وهو ما انعكس في أولى تجاربه المسرحية "سهرية" عام 1973، والتي كتبها ولحنها وهو لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، لم يكن مجرد امتداد للرحابنة، بل تحدى القالب الرحباني الكلاسيكي، وذهب نحو موسيقى ومسرح يمسّ الواقع اليومي للإنسان اللبناني والعربي، بحسه الساخر ولغته الحادة.
شخصية زياد الرحباني
ظل زياد الرحباني حتى سنواته الأخيرة شخصية فنية مثيرة للجدل، بآرائه الصريحة عن الحياة، المرأة، والدين، والسياسة، وبلغت استقلاليته حدّ الصدام الفني حتى مع والدته فيروز، التي لحّن لها لاحقًا بأسلوب مغاير تمامًا عن الطابع الرحباني التقليدي، إذ انتزع منها صورتها الرومانسية الحالمة، وأنزلها إلى واقعية فظة ممزوجة بالألم والسخرية من الأوضاع الاجتماعية والسياسية في لبنان والعالم العربي.
تتسم شخصية زياد الرحباني بالعناد وعدم القابلية للترويض، مما عرضه لاتهامات بالغرور والتعالي، كما أن حياته الشخصية، المليئة بالدراما والمواقف المثيرة للجدل، كانت مصدر إلهام كبير لفنه.
وعلى الرغم من الخسائر النفسية التي تكبدها من هذه التجارب، إلا أنه استغلها فنيًا ببراعة، وصاغها بواقعيته وسخريته اللاذعة، مجسدًا واقعه كشخص يعاني من أزمات عاطفية أو مادية، إذ تحولت قصصه وحكاياته الشخصية إلى أعمال فنية خالدة، ظلت أغانيه المرجع الأساسي لكل حكاية من حكايات زياد، حتى وإن حاول نسيانها.
"ولعت كتير": قصة حب على إيقاع الواقع
تُعد أغنية "ولعت كتير" بمثابة شريط صوتي يوثق أدق تفاصيل علاقة زياد الرحباني بالممثلة اللبنانية كارمن لبس [1].
هذه العلاقة، التي امتدت لخمسة عشر عامًا، انتهت بالانفصال، لكنها تركت بصمة عميقة في أعمال زياد، وعلى الرغم من طول هذه العلاقة، كان زياد الرحباني متصالحًا مع نفسه، وتوقع انهيارها، وقد عبر عن ذلك بشفافية وصدق العاشق المهزوم، مصرحًا بأن:
"كارمن كان لديها كل الحق لهجري، طوال الفترة التي عشتها مع كارمن، كنت أعدها بأن هذا الوضع، المكان الذي نعيش فيه، الحي، الشقة، الغموض والتشويش في حياتنا، كلها أشياء مؤقتة، وأني سأحاول إصلاح الوضع بأكمله" [2].
تُظهر هذه الأغنية، التي صدرت ضمن ألبوم "الموندوز" (أو "الجرعة الواحدة")، جانبًا من جنون زياد الرحباني على مستوى الكلمات والموسيقى، إذ تسخر الأغنية من الرجل، الذي لم يكن سوى زياد نفسه، ومن فشله في الحفاظ على استقرار علاقاته العاطفية، يتحدث زياد على لسان الفتاة التي ضاقت ذرعًا بمزاجيته وفوضويته ووعوده التي لا تصدق، ومماطلته في إصلاح الأحوال المعيشية بينهما.
وقد جاءت صياغة الأغنية تفصيلية في وصف أسباب فشل العلاقة والعراك اليومي المتكرر، ممزوجة بسخرية وأسى وتذمر، وهجوم شرس على الرجل يتخطى مرحلة العتاب واللوم، ليحرر المرأة من سيطرة الرجل المطلقة ومن بؤس العيش في كنفه، ويؤكد حقها في إنهاء العلاقة.
تميز ألبوم "الموندوز" بتجانس فني، وأداء تعبيري ساخر من المطربة سلمى مصفي، ببساطة خالية من التطريب، مع تدفق رائع لموسيقى الجاز، من خلال هذه الأغنية، سعى زياد الرحباني إلى إعطاء المرأة حقها في التعبير بشكل أوضح عن مشكلتها الأبدية والأزلية في المجتمع الشرقي.
"زعلي طول أنا وياك": قصة إفلاس فني وسيارة كحلية
يُعرف زياد الرحباني بتقديمه فنًا يتجاوز الأطر الاستهلاكية التجارية، لكنه لم يخجل من الحديث عن إفلاسه المادي خلال الحرب الأهلية اللبنانية، ولم يبرئ نفسه من تهمة التعاطي مع الفن بشكل تجاري بحت، عندما قرر الاشتراك في برنامج غنائي لتوفير مبلغ 8000 ليرة لبنانية، كان سيساعده في شراء سيارة كحلية اللون أعجبته... هذه القصة تكشف جانبًا إنسانيًا وواقعيًا في حياة الفنان، حيث تتداخل الضرورات المادية مع الإبداع الفني.
كان عمه، الموسيقار إلياس الرحباني، يشرف على المحتوى الموسيقي لبرنامج غنائي بعنوان "ساعة وغنية"، كان تلفزيون الأردن سينتجه خلال الحرب الأهلية اللبنانية، تضمن البرنامج أكثر من 130 أغنية، يحصل الملحن على 1000 ليرة مقابل اللحن الواحد، سأل إلياس زياد، بعد أن وافق الأخير مرغمًا على الاشتراك في تلحين أغاني البرنامج، عن عدد الأغاني التي يستطيع تلحينها.
أجاب زياد:
- "ثمانية ألحان".
فاستغرب عمه وسأله عن سر هذا الرقم المحدد.
أجاب زياد ببساطة:
- "أريد شراء سيارة".
وعلى الرغم من سخرية عمه، وافق على إعطائه ثماني أغنيات، ووافق أيضًا على الإشارة إلى مشاركته في التلحين في تترات البرنامج، دون كتابة اسمه على الأغاني التي لحنها.
وعاد زياد الرحباني إلى بيروت حاملًا ثمانية آلاف ليرة، ليشتري السيارة، لكن في ذاكرته، بقي لحن واحد من تلك الألحان الثمانية بعنوان "ورق الأصفر شهر أيلول"، الذي كان يرى أنه لحن جيد ضاع وسط الألحان الأخرى.
عندما استمعت السيدة فيروز إلى اللحن، أبدت اعتراضها على الكلمات، فلجأ زياد إلى الشاعر جوزيف حرب، الذي كان بالمناسبة صاحب الكلمات الأولى لنفس اللحن، ليعيد كتابة كلمات جديدة.
وهكذا، خرجت تلك التحفة الفنية في شكلها الجديد بعنوان "زعلي طول أنا وياك"، وصدرت ضمن ألبوم "معرفتي فيك" عام 1981 [3].
ومن المفارقات أن الكلمات الأصلية التي اعترضت عليها فيروز، ذهبت لاحقًا للملحن الراحل فيلمون وهبة، لتغنيها فيروز في ألبوم "يا رايح" عام 1994 [4].
"مربي الدلال": مرارة الطلاق وسخرية الفن
تبدأ أغنية "مربي الدلال" بصوت زياد الرحباني نفسه، بكلمات غير مرتبة منطقيًا، تعكس حالة من الفوضى والاضطراب، تعود أحداث هذه الأغنية إلى عام 1975، وهو العام الذي التقى فيه زياد بـ دلال كرم لأول مرة أثناء بروفات مسرحية السيدة فيروز "ميس الريم"، إذ كانت دلال تعمل في فريق الدبكة اللبناني، وهناك انطلقت شرارة الحب بينهما، ليتوج بالزواج عام 1979 [5].
كتب زياد الرحباني هذه الأغنية بعد طلاقه الرسمي من دلال كرم في أوائل التسعينيات، وعلى خلفية تصريحات صحفية اتهمته بالخيانة، بالإضافة إلى إدمانه الكحول وهجرانه المتكرر لها، مفضلاً قضاء معظم أوقاته في الاستوديو الخاص به ومع رفاقه الشيوعيين (كما قالت)، فقرر زياد الرد على تلك التصريحات بأغنية مربي الدلال، وكان واضحًا أن الأغنية تسخر منها بشكل مباشر، مستخدمًا اسمها عنوانًا للأغنية، كما شن هجومًا على والدها الطامع في زواج ابنته من المحامي الذي سيدفع أكثر، وسخر من إمكانياته هو كرجل فقير يتقدم لخطبة فتاة لا يملك رأس مال سوى حبه.
استعان بصديقه المطرب الكبير جوزيف صقر الذي غنى الأغنية بشكل تعبيري فكاهي، على خلفية ضحكات ساخرة من زياد، مما أضاف للأغنية طابعًا فريدًا يمزج بين السخرية والمرارة.
"صبحي الجيز": أيقونة النضال والواقعية السياسية
لم يقتصر فن زياد الرحباني على الجانب الشخصي والعاطفي، بل كان له وجه آخر عميق الأثر هو السياسة، فتزامنت بداياته السياسية مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، حيث قدم مسرحيات اعتبرها البعض منشورات سياسية جريئة، عبرت بغضب وانتقاد لاذع عن الواقع الطائفي اللبناني المعقد، ولم يخف زياد انتماءه الشيوعي وتمسكه بمبادئه الحزبية، وعبر عن ذلك في حفل بمناسبة الذكرى الثانية والثمانين لانطلاق الحزب الشيوعي اللبناني، قائلًا:
"الشيوعي لا يخرج من الحزب إلا إلى السجن أو البيت" [6].
قام زياد الرحباني برثاء الكناس الشيوعي "صبحي الجيز" في أغنية تحمل اسمه، وأطلقها عبر صوت المطرب خالد الهبر في ألبومه "إلى حبيبتي على سبيل التطمين" عام 1976، وغنتها السيدة فيروز لاحقًا في ألبوم "ولا كيف" عام 2001 [7].
تتواتر القصص حول حقيقة وجود شخصية صبحي الجيز، هل كانت شخصية حقيقية أم محض خيال إبداعي من زياد؟
الأقرب للتداول أنه كان صديقًا للمطرب خالد الهبر عندما كان يعمل عازفًا في أحد كازينوهات بيروت، وبغض النظر عن واقعيتها أو كونها مجرد خيال، فإن "صبحي الجيز"، هذا الكناس المعدم، كان بمثابة أيقونة للنضال والثورة على الظلم والفساد دون شعارات زائفة.
تأثر الشابان زياد والهبر بأفكاره الشيوعية وانتمائه للطبقة الكادحة التي تؤمن إيمانًا حقيقيًا بالعدل والمساواة، على عكس النخبة المثقفة التي تبنت خطابًا زائفًا، وظلت سيرة صبحي الجيز تتردد على أسماع الناس بعد أن خلدها زياد في أغنية حملت اسمه، لتصبح رمزًا للمقاومة ضد الظلم والفقر.
ختامًا؛ رحل زياد الرحباني بهدوءٍ يشبه صمته حين يكتفي بنظرة ساخرة، تاركًا إرثًا لا يُشبه إلا ذاته، ولا يمكن اختصاره في لحن أو مسرحية أو نكتة سياسية، رحل من حمل وجع لبنان ومرارة الواقع على كتفيه، وترك لنا أعمالًا ستبقى حية تُجادلنا، وتضحكنا، وتوجعنا. فحتى في غيابه، لا يزال زياد يهمس لنا من بعيد:
«ما خلصت الحكاية... بعد في شي ما نقال».
وفاة زياد الرحباني
اقرأ أيضاً:
- أمين معلوف وأمبرتو إيكو .. مقارنة أدبية وفكرية بين رائدَي الرواية التاريخية
- جبران خليل جبران - أحد رموز الأدب العالمي
