اقتباس من قصة المعجزة لـ نجيب محفوظ: "يجدر به منذ الآن أن يولي نفسه ما تستحق من الاحترام، أن يتعجب ويتساءل، أن يحكي الحكاية لكل من هب ودب، وأن يبحث لها عن تفسير.. لقد وقعت معجزة، وقعت ببساطة بين جدران حانة".
![]() |
المعجزة لـ نجيب محفوظ |
هكذا حدث كاتب الحسابات الأربعيني نفسه وهو يجلس وحيداً يرتشف النبيذ في حانة ممتلئة بالسكارى، كان الرجل، الذي أنعشت كؤوس النبيذ نفسه، قد قرر أن يعبث قليلاً، فسأل النادل إن كان يعرف شخصاً اسمه "محمد شيخون الماوردي" متعللاً أنه من زبائن الحانة المستديمين، وأنه يريده لأمر هام.
بالطبع، لم يكن كاتب الحسابات يعرف شخصاً بهذا الاسم، لكن بعد دقائق سمع صوت مدير الحانة وهو ينادي على "محمد شيخون الماوردي"، إذ أن هناك من يطلبه على التليفون.. بُهت الرجلُ من المفاجأة! من أين له أن يدري أن هناك رجلاً بهذا الاسم العجيب! لعلها مصادفة عجيبة مما يقع في الحياة.
ابتسم له النادل، لأن شخصاً آخر في دقائق معدودة يسأل عن نفس الاسم الذي سأل هو عنه، ظن أن النادل يعابثه، لكنه طرد هذا الخاطر من رأسه سريعاً.. أنهى المحاسب دورق النبيذ وهو مشغول بتفسير الحدث الجلل.. ودنا منه النادل ثانيةً، فسأله المحاسب بلا ترتيب مسبق إن كان يعرف شخصاً اسمه "زيد زيدان زيدون"، فأنكر الجرسون معرفته بالرجل وذهب لحال سبيله ليعود بعد دقائق ليعلمه أن صديقه "زيد زيدان زيدون" يطلبه على تليفون المدير!
ذهب للتليفون مترنحاً من هول المفاجأة ليسمع صوت رجل يسأله عما يريد منه ويقدم نفسه له كزيد زيدان زيدون.. وضع السماعة مرتعباً بعد أن أجاب إجابةً نمطية لا تثير شكوك من حوله وانطلق للطريق منتشياً باكتشافه لموهبة دفينة.. إنه قادر على التنبؤ!
لم يجد عند زوجته انبهاراً بتلك الموهبة التي ترفعه لمصاف الأولياء الصالحين، خمنت المرأة أن الأمر لا يعدو كونه مصادفة.. أقنع نفسه أن "قسوة المعيشة قد أفسدت تفكيرها وألصقتها بتوافه الأرض".. وجد سلواه عند شيخ الزاوية التي يصلي بها كل جمعة.. استمع له الشيخ باهتمام وطلب أن يعيد على مسامعه الحادثة مرات.. "فيك شيء لله.." أكد الشيخ ذلك، وهو ينبهه إلى أن وقوع المعجزة في حانة ما هي إلا امتحان وتحذير.. نصحه الشيخ بأن عليه أن يستثمر كنزه لخير الناس، وحكى له سير بعض الأولياء ونوه ببعض الكتب التي يجدر به مطالعتها!
أهمل المحاسب عمله وتوقف عن الكتابة على الآلة الكاتبة التي كانت تدر عليه دخلاً إضافياً يعينه على مشاق الحياة، وانهمك في القراءة والتأمل رغم ما كلفه ذلك من مال "لم يكن يملك فائضاً منه، ومشقة في الاستيعاب لأنه لم يكن مدرباً على القراءة العسيرة".. ساءت أحواله واشتكت زوجته لكنه لم يعرها اهتماماً.
ولكنه عرف سبيله ولن توقفه قوة
اقتباس .. "ولكنه عرف سبيله ولن توقفه قوة.. هناك أمل، عند الأفق، وراء حياته الذابلة التافهة الجدباء، أمل يعده بالقوة والنور والامتياز، سيتحول الشخص المسكين إلى شخص نوراني باهر يأتي بالمعجزات، وسوف يوارى بعد عمر طويل في ضريح مبارك".وبعد أن طال بكاتب الحسابات عهد القراءة والتأمل، قرر أن يجرب موهبته.. ذهب إلى مقاهٍ وحانات يسأل عن أسماء غريبة، لكن جرس التليفون لم يأتِ في أي مرة ليعلن عن وقوع المعجزة.. ساورت نفسه الشكوك فقرر التوجه إلى ذات الحانة التي وقعت بها المعجزة الأولى والتي كان يتجنب المرور بقربها دوماً.. جلس وطلب نبيذاً ليساير الجو.. أخذ يغالب اليأس والأمل وهو يتطلع لوجوه السكارى، وفي تلك الأثناء حدثته نفسه بأن أحد رواد الحانة سيسقط ميتاً.. وهنا وقعت المعجزة الحقيقية!
اقترب منه أحد السكارى العابثين ودار بينهما حوار قصير عرف منه كاتب الحسابات أن في الليلة التي سأل فيها الجرسون عن الإسمين الغريبين، كان هذا السكير يجلس مع أصدقائه على مقربة منه.. فعرف المحاسب أن السكير هو من اتصل بهاتف المدير من الخارج مرتين، مرة ليسأل عن شيخون، وفي المرة الثانية كان هو من حادثه منتحلاً اسم زيد زيدان زيدون!
وضحك السكارى على المحاسب من أعماقهم، تماماً كما يجدر بسكارى وجدوا صيداً ساذجاً.. ولما أعمى غضب الحقيقة عيني الطامح للولاية، قذف السكير بزجاجة خمر، وما كان من السكير إلا أن تناول شوكة وغرسها في رقبته ليرديه قتيلاً.. وتحققت النبوءة، ومات المحاسب (الطامح للولاية)!
الغرور وعربدة البشر
لعبت الخمر دورها في وفاة المحاسب (الذي ربما لم يكون جديراً بالشفقة)، كما ساهمت في ذلك الخمر، حيث زينت له أنه قادر على العبث بالآخرين والسخرية منهم.. كذلك زينت له الكتب القليلة التي طالعها أنه قادر على السير في دروب الأولياء والصالحين.. لكن ما قتل الرجل كان غروره.. تناوله "العارض" للنبيذ في حانة مليئة بالمعربدين لا يجعله مؤهلاً للعربدة والسخرية من حماقات البشر.. كذلك الكتب قد تكون أكثر إضلالاً للعقل من كل براميل الخمر المعتقة إن ظن المرء أن بمطالعته القليل منها دون فهم وتراكم معرفي كفيل بكشف الحقائق.منطق زوجته
لم ينصت الرجل لمنطق زوجته الرافض لأوهامه، وطربت أذناه لشيخ الزاوية الذي صدق ترهاته دون أن يحاول أن يجد لها تفسيراً.. انساق وراء مجد لا يستحقه، رغم أن السخرية منه كانت جلية من اللحظة الأولى!بطل المعجزة
بطل القصة نموذج جلي للإنسان الذي يتوسل أي سبب ليمنح نفسه أكثر مما يستحق، هذا الإنسان في حد ذاته معجزة تتكرر عبر العصور دون أن نجد لها تفسيراً.. لعلها مأساة الطموح الذي تقهره قلة الكفاءة والموهبة.. لعلها لعنة الإنسان الأبدية بين القناعة والطمع.. لعلها كل الأشياء ولعلها لا شيء أبداً.
قصة المعجزة لـ نجيب محفوظ في نقاط
- قصة "المعجزة" لنجيب محفوظ هي واحدة من القصص القصيرة المميزة التي نُشرت في المجموعة القصصية "خمارة القط الأسود" عام 1969
- تميزت هذه المجموعة بتصويرها العميق للجوانب النفسية والروحية للشخصيات
- تروي "المعجزة" حكاية محاسب يعيش حياة روتينية، يختبر واقعة غريبة أثناء زيارته لأول مرة لحانة، ويبدأ رحلة شائقة في البحث عن مفهوم المعجزات في حياته، مما يقلب حياته رأسًا على عقب.
أبرز جوانب قصة المعجزة
1. بداية القصة: تبدأ بدخول المحاسب إلى الحانة بدافع الفضول وذكره اسم شخص غريب، "محمد شيخون المواردي".
2. الحدث المحوري: حدوث مصادفة عندما يتلقى النادل مكالمة يسأل فيها المتصل عن هذا الاسم، مما يعتقد المحاسب أنه "معجزة".
3. رحلة الاكتشاف: يبدأ المحاسب في محاولة فهم هذه "المعجزة"، ويتوجه نحو الروحانيات، مستعينًا بنصيحة شيخ.
4. الأوهام: يغرق المحاسب في أوهام بأنه وليّ من أولياء الله.
5. النهاية الصادمة: يكتشف المحاسب أن ما حدث كان مجرد خدعة من زبائن الحانة.
6. التداخل بين العالمين: تصوير التداخل بين العالم المادي والروحي.
7. استخدام الصدفة والغموض: محفوظ يوظف الصدفة لإثارة مشاعر الهلوسة والتساؤل حول المعجزات.
8. الموضوع الوجودي: تنتمي القصة لمجموعة من قصص محفوظ التي تتناول قضايا وجودية بأسلوب عميق وساخر.
9. النقد الأدبي: يرى النقاد أن القصة تبرز التأثيرات النفسية للسخرية والاستهزاء.
10. أسلوب محفوظ: تُظهر القصة قدرة محفوظ على السرد المكثف والتفاصيل الدقيقة وتجسيد التوترات النفسية.
11. رمزية القصة: تمثل القصة نموذجًا رمزيًا يعبر عن البحث عن المعنى في واقع معقد.
نجح نجيب محفوظ بأسلوبه الفريد في نقل فكرة عميقة عن طبيعة الإنسان وسعيه خلف المجد والتميز حتى وإن لم يكن مؤهلاً له، فـ المعجزة قدمت لنا صورة قاتمة عن تأثير الوهم والغرور على حياة الإنسان، وكيف يمكن للشخصية أن تتحول بتأثير الطموحات الفارغة إلى ضحية لأوهامها الخاصة.
فيلم آخر المعجزات
فيلم "آخر المعجزات" هو فيلم مصري مستوحى من قصة "المعجزة" لنجيب محفوظ، ويمكن أن نجد تشابهاً في المفهوم الأساسي، حيث تُسلط الضوء على الصدفة والروحانية وتأثيرها على حياة الإنسان.. القصة الأصلية تدور حول المحاسب الأربعيني الذي يرى في حادثة بسيطة معجزة تُغيّر مسار حياته، مما يعكس تعقيد الإنسان واندفاعه نحو البحث عن تفسيرات ميتافيزيقية.. في المقابل، يعرض الفيلم هذه الأفكار بأسلوب عصري من خلال شخصية "يحيى" الذي يتعرض لتجربة روحية عميقة بعد اتصال غريب مع شيخ متوفى، ما يجعله يدخل في رحلة تطرح أسئلة عن الروحانية والعوالم الخفية.
الربط بين القصة والفيلم
الربط بين القصة والفيلم يكمن في كيفية تداخل العالمين المادي والروحي في الحياة اليومية، وتأثير الأوهام على القرارات المصيرية.
سيناريو فيلم آخر المعجزات
سيناريو فيلم آخر المعجزات يتبنى إطاراً درامياً يعكس هذه الفكرة بصورة أكثر عصرية، لكن كليهما يبرز مخاطر الانسياق وراء الرموز والعلامات، حتى لو كانت على شكل معجزات.
بالإضافة إلى ما ذُكر، يعكس فيلم "آخر المعجزات" فكرة البحث عن المعنى في حياة الشخصيات بطريقة متشابهة مع قصة "المعجزة".. في القصة، يتحول المحاسب إلى شخص يعتقد بأنه ولي من أولياء الله، في حين أن "يحيى" في الفيلم يخوض تجربة غريبة تجعله في مواجهة مع قوى غامضة بعد خطأ بسيط في عمله.. كلا الشخصيتين يعبران عن عدم القدرة على التفريق بين الواقع والأوهام، مما يؤدي إلى عواقب مأساوية في النهاية.
أحد العناصر المشتركة بين القصة والفيلم هو استخدام الخمر كرمز للتضليل والاغتراب.. في "المعجزة"، تلعب الخمر دوراً مهماً في توضيح غرور المحاسب وكيف أدت به إلى سخرية الآخرين، بينما في "آخر المعجزات"، يمثل الشرب أيضًا هروباً من الواقع وصراعاً داخلياً للشخصية.
التطور النفسي للشخصيتين يُعتبر أيضاً جانبًا مهمًا، حيث يُظهر الفيلم كيف يكتشف "يحيى" عوالم جديدة بعد الاتصال بالشيخ المتوفى، مما يعكس الصراع بين العقلانية والإيمان، بينما في القصة، يُظهر المحاسب كيف يمكن أن تؤدي أوهامه إلى الكارثة.
في النهاية، يمكن القول إن فيلم "آخر المعجزات" يعيد صياغة الأسئلة الوجودية التي طرحها نجيب محفوظ في قصة "المعجزة"، ولكن بأسلوب أكثر حداثة، مما يجعله عملاً يواكب الزمن ويعكس التحديات الروحية والنفسية التي تواجه الأفراد في العصر الحديث، حيث يتساءل الفيلم عن القيمة الحقيقية للمعجزات، وهل هي مجرد أوهام أم تجارب حقيقية تغير مسار الحياة.
اقرأ أيضاً كيف تعلم نجيب محفوظ كتابة السيناريو؟
التسميات
القصة والرواية