في تاريخ الأمم، هناك لحظات فارقة لا تُسجلها فقط البيانات العسكرية والتحليلات السياسية، بل تنحتها ذاكرة الشعب ووجدانه. نصر أكتوبر 1973 هو إحدى هذه اللحظات الخالدة في تاريخ مصر والأمة العربية.
وبينما كانت المدافع تدوي والجنود يعبرون المستحيل، كانت هناك جبهة أخرى لا تقل أهمية، جبهة صاغتها الكلمة واللحن والصورة، فالواقع أن دور الأدب والفن في نصر أكتوبر العظيم لم يكن مجرد ترفيه أو توثيق لاحق، بل كان سلاحاً حقيقياً ساهم في التعبئة النفسية، ورفع الروح المعنوية، وتشكيل وعي أمة بأكملها، من الهزيمة إلى الانتصار.
![]() |
| دور الأدب والفن في نصر أكتوبر العظيم |
ما قبل النصر – فن وأدب تحت وطأة النكسة
لتسليط الضوء على دور الأدب والفن في نصر أكتوبر العظيم، يجب أن نعود بالزمن إلى ما بعد يونيو 1967، إذ كانت "النكسة" جرحاً غائراً في الروح المصرية والعربية، ولم يكن الفن والأدب بمنأى عن هذا الألم، حيث ساد شعور بالمرارة والانكسار، وظهرت أعمال فنية وأدبية تعكس هذا الواقع بصدق موجع. أفلام مثل "شيء من الخوف" (1969) و"ميرامار" (1969) المقتبس عن رواية نجيب محفوظ، حملت في طياتها رموزاً عن القهر وضياع الحلم.
لكن من رحم هذا الألم، بدأت تتشكل مقاومة ثقافية، بعدما أدرك المبدعون أن دورهم ليس فقط رثاء ما حدث، بل شحذ الهمم واستنهاض الروح القتالية، فتحول الأدب والفن إلى منصة للرفض والمقاومة، ورفض الأمر الواقع، فكانت قصائد أمل دنقل، وصلاح عبد الصبور، وأحمد فؤاد نجم، بمثابة صرخات توقظ الضمير الجمعي. أما أغاني الشيخ إمام مثل "بقرة حاحا" و"شيد قصورك" كانت نقداً لاذعاً للواقع، ودعوة للتغيير .. هذه المرحلة من "فن المقاومة" كانت هي التربة التي مهدت الطريق ليكون دور الأدب والفن في نصر أكتوبر العظيم دوراً فاعلاً ومحورياً.
أولاً: الأغنية الوطنية – وقود الروح المعنوية على الجبهة وفي الداخل
ربما كان السلاح الفني الأسرع وصولاً والأعمق تأثيراً هو الأغنية الوطنية. خلال حرب أكتوبر، تحولت الإذاعة المصرية إلى ما يشبه "غرفة عمليات معنوية"، فكانت الأغاني الوطنية التي تُبث بمثابة طلقات من الأمل والحماس تصل إلى كل بيت في مصر وإلى كل جندي على الجبهة.
- "بسم الله.. الله أكبر.. بسم الله": هذه الأهزوجة البسيطة التي انطلقت مع الساعات الأولى للعبور كانت بمثابة "كلمة سر" النصر، فالصوت الجماعي (بسم الله.. الله أكبر.. بسم الله) ارتبط في وجدان المصريين بلحظة العبور التاريخية، وأصبحت أيقونة صوتية للنصر
- "عاش اللي قال": كلمات محمد حمزة ولحن بليغ حمدي وصوت عبد الحليم حافظ، شكلت ثلاثية وطنية فريدة. الأغنية لم تحتفل فقط بقرار الحرب، بل احتفلت بالإرادة المصرية التي استعادت كرامتها .. جملة "عاش اللي قال للرجال عدوا" كانت تكريماً للقيادة والجندي معاً.
- "صباح الخير يا سينا": غنتها شادية بعد الحرب، لكنها كانت تعبيراً عن فرحة استعادة الأرض، أصبحت الأغنية رمزاً للعودة، ورسالة حب للأرض التي رُويت بدماء الشهداء.
- "يا حبيبتي يا مصر": رغم أنها أُنتجت قبل الحرب، إلا أنها اكتسبت زخماً هائلاً خلالها. أصبحت نشيداً شعبياً يعبر عن الانتماء والتضحية من أجل الوطن.
إن دور الأدب والفن في نصر أكتوبر العظيم تجلى بوضوح في هذه الأغاني التي لم تكن بمثابة رسائل تعبئة، وعهود وفاء، واحتفالات بالنصر، ساهمت في توحيد مشاعر الملايين خلف هدف واحد.
ثانياً: الأدب – من توثيق الجرح إلى صناعة ملحمة النصر
الكلمة كسلاح: كيف مهد الأدب المصري طريق النصر في أكتوبر 1973
إذا كانت الأغنية هي صوت المعركة اللحظي، فإن الأدب كان هو الذاكرة العميقة التي صاغت ملحمة العبور واحتفظت بتفاصيلها الإنسانية والنفسية في وجدان الأمة.
لقد أدرك الأدباء المصريون أن مسؤوليتهم لا تقل عن مسؤولية المقاتلين على الجبهة؛ فالكلمة كانت سلاحاً موازياً للبندقية، قادرة على زرع الأمل، واستنهاض الإرادة، وتوثيق مشاعر جيلٍ عاش ممزقاً بين هزيمة ساحقة ونصرٍ مجيد.
ومن خلال الرواية والقصة والشعر والمسرح، رسم الأدب المصري لوحة شاملة للصراع بين الانكسار في يونيو 1967 وبزوغ فجر أكتوبر 1973.
أدب المقاومة: حينما رفض الوجدان الهزيمة
في أعقاب نكسة 1967، لم يكن الأدب مجرد مرآة تعكس الجرح، بل كان صوت الوعي الجمعي الذي قاوم الهزيمة وحاول إعادة بناء الذات الوطنية، إذ تراجع أدب البطولات الساذجة، وبرز ما يمكن تسميته بـ "أدب المقاومة والصمود"؛ وهو أدب حفر عميقاً في تربة الواقع، محاولاً تفسير أسباب الهزيمة، ومؤكداً أن النكسة لم تكن نهاية الطريق، بل كانت بداية الوعي الحقيقي.
يوسف إدريس: تشريح الذات ومقاومة الانكسار
يوسف إدريس، بعينه الثاقبة كطبيب وقاص، قدم صوراً رمزية للإنسان المصري الذي يتحدى واقعه، ففي أعماله السابقة مثل "العسكري الأسود" (1962)، فرغم أنها كُتبت قبل النكسة، إلا أنها استُدعيت كرمز للمقاومة، حيث صوّرت الجندي المصري وهو يواجه عدواً أكبر منه، ليس فقط بالسلاح، بل بإرادة البقاء والكرامة.
- النداهة: في قصة "النداهة" (1969)، جسّد يوسف إدريس صراع الهوية المصرية الأصيلة المتمثلة في شخصية "فاطمة"، الفتاة الريفية البسيطة التي تجذبها أضواء المدينة الصاخبة، لكنها تُسحق في دوامة الاغتراب والضياع، لم تكن "النداهة" مجرد قصة عن فتاة ريفية، بل رمزاً لمصر ذاتها وهي تواجه إغواء الحداثة الزائفة وضياع القيم بعد النكسة، فالقوى التي "تُنادي" البطلة ليست سوى صورة مجازية للمدينة التي تبتلع أبناءها وتفقدهم براءتهم وانتماءهم، ومن خلال الصراع بين الريف النقي والمدينة القاسية، عبّر إدريس عن الانقسام الداخلي في الوجدان المصري بين الأصالة والتغريب، بين الجذور والضياع، وهو الصراع الذي مثّل الخلفية النفسية لهزيمة 1967 .. لقد كانت "النداهة" في جوهرها صرخة إنذار مبكرة ضد الانفصال عن الجذور، ومقدمة فكرية لأدب المقاومة الذي مهد لمرحلة الوعي والنهوض قبل نصر أكتوبر.
جمال الغيطاني: صوت الخنادق ورائحة البارود
أما جمال الغيطاني، فكان صوته هو الأقرب إلى رائحة البارود وصوت الرصاص، فكونه مراسلاً حربياً، لم يكتب عن الحرب من برجٍ عاجي، بل من قلب الخنادق، ففي مجموعته القصصية "أرض.. أرض" (1972)، نقل تفاصيل حياة الجنود اليومية على الجبهة خلال حرب الاستنزاف.
- حكايات الغريب: جاءت رائعة "حكايات الغريب" (1974) لتمثل ذروة أدب الحرب في مصر؛ إذ نجح جمال الغيطاني في أن يمزج بين التوثيق الواقعي لبطولات الجنود والأسطورة الشعبية التي تشكل وجدان المصريين منذ قرون، فلم يكتفِ الغيطاني بتسجيل مشاهد القتال أو تفاصيل العبور، بل كتب عن الإنسان المقاتل، عن الجندي البسيط الذي يحمل بين يديه سلاحاً وفي قلبه حباً للوطن يفوق الخوف والموت، فتحولت الحكايات إلى ما يشبه "سيرة هلالية" جديدة، تمتد جذورها في الموروث الشعبي المصري، لكنها تُروى هذه المرة على ضفاف قناة السويس لا في البوادي، وبأبطالٍ من لحم ودم، لا من خيال الشعراء، واستطاع الغيطاني من خلال لغته المشبعة بالرمز والروح الصوفية أن يرفع الحدث العسكري إلى مستوى الملحمة الإنسانية، حيث تتداخل البطولة بالقدر، والواقع بالحلم، في تأكيدٍ على أن المقاتل المصري لم يكن مجرد جندي في معركة، بل كان رمزاً للأمة التي تنهض من رماد الهزيمة نحو فجر النصر.
نجيب محفوظ: معركة الوعي قبل معركة السلاح
اختار نجيب محفوظ، فيلسوف الحارة المصرية، أن يحارب على جبهة أخرى: جبهة تشريح الذات وكشف العلل الداخلية، فلم يكتب عن الحرب كحدث عسكري، بل عن المناخ الذي أدى إليها، نرى ذلك في رواياته الرمزية بعد النكسة مثل "ميرامار" (1967)، التي كانت مرثية لمشروع وطني ضل طريقه، و"الحب تحت المطر" (1973)، وصولاً إلى عمله الصادم "الكرنك" (1974)، قدّم محفوظ نقداً ذاتياً جريئاً للواقع السياسي والاجتماعي.
لقد طرح أسئلة الحرية والمساءلة والقمع، مؤكداً أن النصر العسكري لا يمكن أن يتحقق إلا بتحرر الإنسان من قيوده الداخلية، وأن أول عبور نحو القناة كان عبوراً فوق جسر من العدل والحرية.
- الكرنك: جاء فيلم "الكرنك" (1975)، المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ، ليشكل واحدة من أهم المحطات في تاريخ السينما المصرية التي تناولت ما قبل نصر أكتوبر، فالفيلم لم يكن مجرد دراما سياسية، بل شهادة فنية على مرحلة من القهر والاضطراب عاشها المجتمع المصري بعد النكسة، حيث جسّد الانكسار النفسي والإنساني لجيلٍ سحقته الممارسات السلطوية، لكنه لم يفقد إيمانه بالوطن، فمن خلال شخصيات مثل "زينب دياب" و"إسماعيل الشيخ"، عبّر الفيلم عن رحلة الوعي من الخوف إلى المواجهة، ومن الانكسار إلى التمرد، ليؤكد أن النصر العسكري لم يكن ليتحقق لولا النصر الداخلي على الخوف والسكوت، وقد امتزجت براعة محفوظ الفكرية برؤية المخرج علي بدرخان وأداء سعاد حسني ونور الشريف في صياغة عملٍ جمع بين الفن والسياسة، فصار "الكرنك" وثيقةً بصرية تؤرخ للعبور المعنوي الذي سبق عبور القناة.
يوسف القعيد ويحيى الطاهر عبد الله: الإنسان في مواجهة الواقع
على جبهة أخرى من الأدب، قدّم يوسف القعيد في رائعته "الحرب في بر مصر" (1978) صورة نقدية لاذعة للمجتمع وقت الحرب، ولم تكن روايته عن بطولات المعارك، بل عن الفساد الاجتماعي الذي ينخر في جسد الوطن حتى في أقدس لحظاته، من خلال قصة الشاب الفقير "مصري" الذي يُرسل إلى الحرب بدلاً من ابن العمدة، فلقد كشفت الرواية أن الحرب لم تكن فقط ضد عدو خارجي، بل كانت أيضاً ضد عدو داخلي من الجهل والفساد والطبقية.
أما يحيى الطاهر عبد الله، فجسد في أعماله الملحمية مثل "الطوق والأسورة" (1975) صمود الإنسان المصري في صعيد مصر وقدرته على تحمل أقسى الظروف، وهي الروح نفسها التي حملها الجندي المصري معه إلى الجبهة.
- الطوق والأسورة: رواية "الطوق والأسورة" (1975) ليحيى الطاهر عبد الله تُعد واحدة من أهم الأعمال الأدبية التي سبقت نصر أكتوبر وأرّخت لمعاناة الإنسان المصري في صعيده العميق، حيث الفقر والجهل والموت يتربصون بالحياة في كل زاوية، لم تكن الرواية عن الحرب بشكل مباشر، بل عن البيئة النفسية والاجتماعية التي خرج منها المقاتل المصري الذي عبر القناة بعد سنوات قليلة، ففي هذا العمل الملحمي، يصوغ يحيى الطاهر عبد الله مأساة أسرة فقيرة في قرية من قرى قنا، تتوارث القهر جيلاً بعد جيل، في دائرة مغلقة من الحرمان والقدر المحتوم، يرمز إليها “الطوق” و“الأسورة”، ومع ذلك، وسط هذا الظلام، يلمع في النص ضوء صغير من الإصرار والحلم، هو ذاته الضوء الذي حمله الجندي المصري إلى خندقه على الجبهة .. تتميز الرواية بلغتها الشعرية الكثيفة، وإيقاعها الشفاهي المستمد من السرد الشعبي، لتصبح أشبه بـ ملحمة إنسانية عن الصبر والمقاومة والصمود، وقد رأى النقاد أن “الطوق والأسورة” ليست فقط وثيقة فنية عن الريف المصري، بل هي مرآة للروح الوطنية التي صمدت في وجه القهر لتنهض من جديد، تماماً كما نهضت مصر من النكسة إلى نصر أكتوبر.
الشعر والمسرح: صرخة الروح وصوت الغضب
لم يغب صوت الشعراء والمسرحيين عن هذه المرحلة، بل كانوا الشرارة الأولى التي أشعلت فتيل المقاومة في الوجدان، فكانت قصيدة أمل دنقل "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" (1969) بمثابة البيان الشعري الأول لمرارة الهزيمة، وتحولت عبارته الخالدة "لا تصالح ولو منحوك الذهب" إلى شعار وطني يرفض الاستسلام، لقد أصبح شعر دنقل وثيقة وجدانية توازي السلاح في تأثيرها.
وفي المسرح، كتب صلاح عبد الصبور رائعته الشعرية "ليلى والمجنون" (1971) التي عكست بعمق الانكسار الإنساني والبحث عن الخلاص في عالم محطم، مجسداً حيرة جيل بأكمله.
أما في الشارع والمقهى والجامعة، فكان صوت الشعب يتردد في أغاني الثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، التي كانت أغانيهما بمثابة جريدة معارضة يومية تصوغ شعارات المقاومة بلغة بسيطة حادة، وتسخر من الواقع، وتبقي على جذوة الغضب والأمل مشتعلة.
الأدب بوصفه جبهة ثانية للعبور
هكذا، مهد أدب المقاومة الطريق النفسي والفكري للعبور العظيم، فلم يكتفِ الأدباء بتصوير الجرح، بل حولوه إلى طاقة إبداعية حفّزت المجتمع على النهوض، فلقد أسهم الأدب في بناء جبهة داخلية صلبة، قادرة على استيعاب الألم وتحويله إلى وعي وإصرار، مما جعل القلم شريكاً حقيقياً للبندقية في صناعة فجر أكتوبر 1973.
- أدب الحرب والتوثيق الروائي: بعد النصر، انطلق الأدباء لتوثيق بطولات الحرب من منظور إنساني، فقدموا صورة واقعية للجندي المصري البسيط الذي صنع هذا النصر .. لقد أظهروا أن دور الأدب والفن في نصر أكتوبر العظيم هو أنسنة الملحمة، وتحويل الأرقام والإحصائيات إلى قصص بشرية نابضة بالحياة.
- الشعر.. ديوان المعركة: كان الشعر هو المعبر الأسرع عن مشاعر الحرب. قصائد صلاح جاهين العامية، وقصائد أمل دنقل الفصحى مثل "لا تصالح"، كانت بمثابة بيانات شعرية تعبر عن الموقف الوطني. قصيدة "الكعكة الحجرية" لأمل دنقل هي تصوير بليغ لمعنى الصمود والتضحية.
الأدب بعد النصر: كيف حفظ الكُتّاب ذاكرة العبور
بعد أن تحقق النصر في أكتوبر 1973، لم يتوقف الأدب المصري عند حدود الاحتفال، بل تحوّل إلى دفتر الذاكرة الوطنية الذي حفظ تفاصيل العبور جيلاً بعد جيل، فقد أدرك الكُتّاب أن المعركة لم تنتهِ بانتهاء إطلاق النار، بل بدأت معركة أخرى: معركة الوعي والتوثيق.
تناول الأدباء بطولات الجنود ببعدٍ إنساني عميق، وكتبوا عن التحولات الاجتماعية والسياسية التي أعقبت النصر، محاولين رسم ملامح مصر الجديدة التي ولدت من رحم الحرب.
برزت أعمال مثل "الرصاصة لا تزال في جيبي" لإحسان عبد القدوس (1974)، التي قدمت رؤية درامية للعلاقة بين الحب والوطن، وكيف يلتقي العشق الشخصي بالعشق الوطني في لحظة الفداء.
كما تناولت مسرحيات نعمان عاشور وسعد الدين وهبة وألفريد فرج روح النصر من منظور جماعي، مؤكدين أن النصر لم يكن مجداً فردياً بل ثمرة وعي جمعي وتضحية مشتركة.
في هذا السياق، أصبح الأدب بعد أكتوبر جسر الذاكرة بين الجيل الذي قاتل والجيل الذي قرأ، فحمل القصص والروايات والمسرحيات عبق التراب الممزوج بالعرق والدم، ليبقى العبور لا مجرد حدثٍ عسكري، بل رمزاً أبدياً لإرادة أمة لا تعرف الانكسار.
ثالثاً: السينما والدراما – الشاشة الكبيرة كساحة للمعركة
للسينما قدرة فريدة على تجسيد التاريخ وجعله حياً أمام أعين الأجيال الجديدة، وقد كان دور الأدب والفن في نصر أكتوبر العظيم واضحاً في الأعمال السينمائية التي تناولت الحرب، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
🎬 سينما النصر: حينما تحولت الشاشة إلى جبهة قتال وذاكرة أمة
في أعقاب نصر أكتوبر 1973، لم تكن السينما المصرية مجرد أداة للترفيه، بل تحولت إلى ساحة معركة رمزية وذاكرة بصرية حية نحتت ملحمة العبور في وجدان الأمة، فلقد أدرك صُنّاع السينما أن مسؤوليتهم التاريخية تقتضي تحويل قصص البطولة والتضحية من مجرد أخبار عابرة إلى حكايات إنسانية خالدة.
ومن خلال مجموعة من الأفلام التي أصبحت من كلاسيكيات السينما المصرية، تم تجسيد رحلة مصر من الانكسار إلى الانتصار، ليس فقط كحدث عسكري، بل كتحول روحي ونفسي عميق أعاد إلى الأمة ثقتها بذاتها وكرامتها المسلوبة.
الأفلام التي تناولت الحرب مباشرة:
🎥 فيلم "الرصاصة لا تزال في جيبي": وعد النصر الذي تحقق
فيلم الرصاصة لا تزال في جيبي لم يكن مجرد فيلم حربي، بل كان بمثابة صرخة سينمائية أعلنت عن ميلاد "سينما النصر".
صدر الفيلم بعد عام واحد فقط من الحرب، حاملاً معه حرارة الأحداث وصدق المشاعر. تبدأ قصته في الأيام القاتمة التي أعقبت نكسة 1967، من خلال شخصية الجندي محمد (محمود ياسين)، الذي يعود إلى قريته مهزوماً، لا يحمل فقط جراح جسده، بل جرحاً أعمق في روحه.
ورمزاً لهذا الجرح، يحتفظ برصاصة في جيبه، عهداً على نفسه بألا يطلقها إلا في صدر العدو ثأراً لكرامته وكرامة وطنه.
تكمن عبقرية الفيلم، المستمدة من أدب إحسان عبد القدوس، في أنه لم يصور الهزيمة كحدث عسكري مجرد، بل كشرخ نفسي واجتماعي.
نرى "محمد" وهو يواجه نظرات الشفقة والشماتة، ويصارع إحساسه بالعجز أمام حبيبته فاطمة (نجلاء فتحي) التي تتعرض لضغوط من الخائن عباس (سعيد صالح).
تصبح الرصاصة في جيبه رمزاً مزدوجاً: هي ذكرى الهزيمة، وهي في الوقت نفسه وعد بالعودة والثأر.
وعندما تدق ساعة العبور في السادس من أكتوبر، يتحول الفيلم من دراما نفسية كئيبة إلى ملحمة بصرية مفعمة بالأمل.
مشهد "محمد" وهو يعبر القناة، ويقاتل بشراسة، ثم يطلق أخيراً رصاصته، ليس مجرد انتقام شخصي، بل هو تطهير لروح أمة بأكملها.
لقد نجح المخرج حسام الدين مصطفى في تحويل القصة الأدبية إلى أيقونة سينمائية، ليصبح "الرصاصة لا تزال في جيبي" فيلماً عن الوعد الذي تم الوفاء به، وعن الكرامة التي استُردت بالدم والنار.
🎬 "أبناء الصمت" (1974): بانوراما إنسانية لملحمة العبور
إذا كان "الرصاصة..." فيلماً عن رحلة بطل واحد، فإن "أبناء الصمت" هو فيلم عن الجبهة بأكملها.
هو لوحة فسيفسائية ضخمة رسمها المخرج محمد راضي، ليقدم بانوراما إنسانية مؤثرة لجنود مصر الذين صنعوا النصر.
الفيلم لا يركز على بطل أوحد، بل يتنقل بين مجموعة من الشخصيات التي تمثل أطياف المجتمع المصري: المجند البسيط، المثقف، ابن الذوات، والفلاح؛ كل واحد منهم يحمل معه أحلامه ومخاوفه وقصته الشخصية إلى خط النار.
تتجلى قوة الفيلم في قدرته على تصوير الحياة اليومية للجنود خلال حرب الاستنزاف، تلك الفترة القاسية من الصمود والانتظار.
نرى علاقات الصداقة التي تنشأ في الخنادق، والحنين إلى الأهل، والنقاشات الفكرية، ولحظات اليأس والأمل.
هؤلاء الجنود ليسوا مجرد أرقام في جيش، بل هم "أبناء" حقيقيون لمصر، يحملون صمت معاناتهم بكرامة وصبر.
وعندما تأتي لحظة العبور، تنفجر كل هذه المشاعر المكبوتة في سيمفونية من البطولة.
الفيلم لا يمجد الحرب، بل يمجد الإنسان الذي خاضها. ومن خلال مشاهد واقعية ومؤثرة، يقدم "أبناء الصمت" رسالة خالدة مفادها أن نصر أكتوبر لم يكن مجرد خطة عسكرية ناجحة، بل كان نتاج إرادة وصمود وتضحيات آلاف "الأبناء" الذين حولوا صمتهم الطويل إلى صرخة نصر مدوية هزت العالم.
🎞️ "العمر لحظة" (1978): حينما قاتل الوطن كله على الجبهة
يقدم فيلم "العمر لحظة" زاوية مختلفة ورؤية أوسع لمعنى الحرب، مؤكداً أنها لم تكن معركة تدور رحاها على رمال سيناء فقط، بل كانت معركة خاضها الوطن كله.
من خلال شخصية الصحفية نعمت (ماجدة)، التي تعيش حياة مترفة ومنفصلة عن واقع بلدها، يأخذنا الفيلم في رحلة تحول من اللامبالاة إلى الانخراط الكامل في القضية الوطنية.
في البداية، كانت "نعمت" تمثل شريحة من المجتمع تعيش في فقاعة من الرفاهية، بعيداً عن آلام الجنود على الجبهة.
لكن زيارتها للجبهة لتغطية أخبار الحرب تغير حياتها إلى الأبد. هناك، ترى بأم عينيها تضحيات الجنود، وتستمع إلى قصصهم، وتلمس بنفسها معنى الصمود.
هذا الاحتكاك المباشر بالواقع يحطم جدران عزلتها، ويوقظ فيها ضميرها الوطني.
يبرز الفيلم بقوة دور المرأة المصرية في المعركة، ليس فقط كأم أو زوجة تنتظر عودة حبيبها، بل كمشاركة فاعلة في المجهود الحربي، سواء في المستشفيات أو الإعلام أو دعم أسر الشهداء.
كما يسلط الضوء على دور الصحافة الوطنية في رفع الروح المعنوية وكشف الحقيقة.
رسالة الفيلم، التي لخصتها جملته الشهيرة "العمر لحظة، فلنجعلها طاعة للوطن"، هي أن قيمة الحياة لا تُقاس بطولها، بل بعمق الأثر الذي نتركه.
"العمر لحظة" هو تحية للجبهة الداخلية التي كانت السند الحقيقي لجنودنا على خط النار.
⚓ "الطريق إلى إيلات" (1993): ملحمة الضفادع البشرية التي مهدت للنصر
بعد سنوات من انتهاء الحرب، جاء فيلم "الطريق إلى إيلات" ليفتح صفحة منسية من صفحات المجد العسكري المصري.
الفيلم، الذي أخرجته إنعام محمد علي، لا يتناول حرب أكتوبر مباشرة، بل يغوص في أعماق حرب الاستنزاف، ليروي قصة حقيقية لواحدة من أجرأ العمليات الخاصة في تاريخ البحرية المصرية: تدمير ميناء إيلات الإسرائيلي.
قوة الفيلم تكمن في بنائه الدرامي المحكم الذي يجمع بين التخطيط الدقيق والتشويق والإثارة.
يأخذنا الفيلم خطوة بخطوة في رحلة أبطال "الضفادع البشرية"، منذ لحظة اختيارهم، مروراً بالتدريبات الشاقة، وصولاً إلى تنفيذ العملية الانتحارية في قلب ميناء العدو.
نجح الفيلم في خلق حالة من التوتر تجعل المشاهد يحبس أنفاسه، رغم معرفته بالنهاية التاريخية للعملية.
"الطريق إلى إيلات" هو أكثر من مجرد فيلم حركة؛ هو درس في الانضباط والتضحية والعمل الجماعي.
لقد أظهر للعالم وللأجيال الجديدة أن نصر أكتوبر لم يكن وليد الصدفة، بل كان تتويجاً لسنوات من الإعداد والتضحيات والعمليات النوعية التي استنزفت العدو وأفقدته إحساسه بالأمان.
أصبح الفيلم أيقونة سينمائية وتحية خالدة لأبطال مجهولين مهدوا بدمائهم وأرواحهم الطريق إلى النصر.
قيمة الأعمال السينمائية المقتبسة من الأدب: فيلم "الكرنك" نموذجاً
هنا نصل إلى نقطة محورية في فهم دور الأدب والفن في نصر أكتوبر العظيم، وهي العلاقة بين الأدب والسينما، عندما يتم اقتباس عمل أدبي ناجح، فإنه يمنح الفيلم عمقاً فلسفياً ونفسياً قد لا يتوفر في السيناريو الأصلي.
فيلم "الكرنك" (1975)، المقتبس عن رواية نجيب محفوظ، هو النموذج الأبرز. الفيلم لا يتحدث عن حرب أكتوبر بشكل مباشر، بل يتحدث عن المناخ السياسي والاجتماعي الذي سبقها. لقد قام بتشريح مرحلة ما بعد النكسة، وفضح ممارسات القمع وغياب الحرية التي كانت أحد أسباب الهزيمة.
قيمة "الكرنك" تكمن في:
1. قدم نقداً ذاتياً جريئاً: لم يلقِ الفيلم باللوم على العدو فقط، بل نظر إلى الداخل، إلى الأخطاء التي أدت إلى ضعف الجبهة الداخلية.
2. ربط بين الحرية والنصر: قدم الفيلم رسالة عميقة مفادها أن النصر العسكري لا يمكن أن يتحقق في ظل القمع. عبور الهزيمة يتطلب أولاً عبوراً من الظلم إلى العدل، ومن القهر إلى الحرية.
3. جعل النصر أكثر منطقية: من خلال عرض الأجواء القاتمة التي سبقت الحرب، جعل الفيلم من نصر أكتوبر حدثاً أكثر عظمة، لأنه لم يكن مجرد انتصار عسكري، بل كان انتصاراً على اليأس والقهر الداخلي أيضاً.
وهكذا، فإن أفلاماً مثل "الكرنك" تبرهن على أن دور الأدب والفن في نصر أكتوبر العظيم لم يقتصر على تمجيد المعركة، بل امتد إلى تحليل أسبابها ونتائجها، ووضعها في سياقها التاريخي والاجتماعي الصحيح، مما يمنح الأجيال الجديدة فهماً أعمق وأكثر نضجاً لمعنى النصر.
🎞️ السينما ذاكرة الأمة
تبقى السينما، أكثر من أي فنٍّ آخر، ذاكرة الأمة الحيّة التي تحفظ وجدانها وتعيد سرد حكايتها للأجيال. فمن خلال الصورة والصوت والمشهد، استطاعت أن تُخلّد ملامح الجندي المصري، ودموع الأم، ونبض الشارع الذي انتظر لحظة النصر.
لقد لعبت سينما ما بعد أكتوبر دور المؤرخ الشعبي، لا تسجّل فقط وقائع الحرب، بل تُجسّد الروح الوطنية التي انتصرت على الهزيمة واليأس. كانت الكاميرا وقتها بمثابة بندقية أخرى، تُطلق رصاصات الوعي والفخر في وجه النسيان.
واليوم، بعد مرور عقود على نصر أكتوبر، تظل هذه الأفلام شاهدًا خالدًا على مرحلة صنعت ملامح مصر الحديثة، وتبقى سينما النصر هي مرآة الذاكرة المصرية التي لا تشيخ، لأنها لا تتحدث عن الحرب فحسب، بل عن كرامة الإنسان وإرادته حين يقرر أن ينهض من جديد.
![]() |
| دور الأدب والفن في نصر أكتوبر العظيم |
رابعاً: الفن التشكيلي والكاريكاتير – ريشة في مواجهة العدو
لم تكن الريشة أقل قوة من الكلمة أو الرصاصة. لعب الفنانون التشكيليون ورسامو الكاريكاتير دوراً حيوياً في التعبئة المعنوية.
- الفن التشكيلي: تحولت لوحات الفنانين إلى سجل بصري للمعركة. لوحات مثل أعمال عز الدين حمودة وبهجوري، جسدت مشاهد العبور والبطولة، وحولت عنف الحرب إلى جماليات فنية تحمل معاني الصمود والتضحية.
- الكاريكاتير: كان سلاحاً يومياً ساخراً وقوياً. رسامون مثل مصطفى حسين وأحمد طوغان وبهجت عثمان، كانوا يقدمون في الصحف اليومية رسومات تلخص الموقف السياسي، وتسخر من العدو، وترفع من معنويات الشعب. صورة الجندي الإسرائيلي الخائف، والجندي المصري الشجاع، كانت تُطبع في وعي القارئ يومياً، مما يساهم في الحرب النفسية.
ختامًا؛ إن دور الأدب والفن في نصر أكتوبر العظيم لم ينتهِ بانتهاء الحرب. لقد تحولت هذه الأعمال إلى جزء من الذاكرة الوطنية، وإرث ثقافي تتوارثه الأجيال. هي التي تروي للأبناء والأحفاد قصة النصر، ليس كمعلومات جافة في كتب التاريخ، بل كقصص إنسانية ومشاعر حية.
اليوم، وبعد مرور أكثر من خمسة عقود، ما زالت أغنية "بسم الله" تثير فينا قشعريرة العبور، وما زال فيلم "الطريق إلى إيلات" يجمع الأسرة أمامه، وما زالت رواية "الكرنك" تثير فينا أسئلة حول الحرية والوطن .. هذا هو الانتصار الحقيقي للفن، أن يظل حياً، قادراً على إلهام الأجيال، وتذكيرها بأن الأوطان لا تُبنى بالانتصارات العسكرية فقط، بل تُبنى أيضاً بالوعي والثقافة والكرامة التي يصوغها الأدب والفن.
لقد كان دور الأدب والفن في نصر أكتوبر العظيم هو تحويل النصر من مجرد حدث عسكري عابر إلى ملحمة إنسانية خالدة.
اقرأ أيضًا:

