أكتوبر في عيون الأدب .. الجمعية المصرية لكتاب القصة والرواية تحتفل بانتصارات أكتوبر في مكتبة مصر العامة

في أجواء وطنية تحتفي بالمجد والبطولة، تستعد الجمعية المصرية لكتاب القصة والرواية لتنظيم احتفالية خاصة بمناسبة الذكرى الثانية والخمسين لانتصارات أكتوبر المجيدة، وذلك في تمام الثالثة عصر يوم السبت الموافق 18 أكتوبر 2025، بمقر مكتبة مصر العامة بالدقي، تحت رعاية الكاتب المستشار شريف العجوز، رئيس الجمعية المصرية لكتاب القصة والرواية.


الجمعية المصرية لكُتاب القصة والرواية تحتفل بانتصارات أكتوبر في مكتبة مصر العامة
الجمعية المصرية لكُتاب القصة والرواية تحتفل بانتصارات أكتوبر في مكتبة مصر العامة


يأتي اللقاء الأدبي تحت عنوان «أكتوبر في عيون الأدب»، في إطار احتفالات الدولة بذكرى النصر العظيم، واستمرارًا لرسالة الأدب في توثيق التاريخ وإحياء روح الانتماء الوطني في نفوس الأجيال الجديدة.

ويشارك في اللقاء عدد من رموز الأدب المصري، منهم الكاتب أحمد جويلي نائب رئيس الجمعية، والكاتب محمد صلاح الغرب أمين عام الجمعية، والكاتبة شيرين غالب عضو مجلس الإدارة، بالإضافة إلى نخبة من خيرة شباب أدباء مصر، حيث يتناول اللقاء الدور الوطني للأدباء في صناعة الوعي الجمعي، وكيف استطاع الإبداع الأدبي أن يكون شاهدًا حيًا على بطولات أكتوبر التي خلدت اسم مصر في سجلات المجد والكرامة.

وخلال الجلسة، يناقش الحضور كيفية توظيف القصة والرواية في ترسيخ قيم الفداء والانتماء، ودور الأدب في بناء الوعي الثقافي، بما يتسق مع جهود الدولة المصرية في بناء الإنسان وتعزيز الهوية الوطنية.

حفل حلف اليمين لأعضاء جمعية كتاب القصة والرواية

وعلى هامش الفعالية، يقام حفل حلف اليمين للأعضاء الجدد بـ الجمعية المصرية لكتاب القصة والرواية، في مشهد يعكس روح الانتماء والمسؤولية الأدبية والوطنية، ويؤكد أن الأدب لا ينفصل عن قضايا الوطن، بل يظل ركيزة أساسية في دعم التنمية الفكرية والثقافية للمجتمع.

وتُعد هذه الفعالية واحدة من أبرز الأنشطة الثقافية التي تنظمها الجمعية خلال عام 2025، في إطار خطتها لنشر الثقافة الأدبية وتشجيع الكُتاب الشباب على الإبداع والتعبير عن قضايا الوطن من خلال القصة والرواية.

وفي هذا السياق، يؤكد رئيس الجمعية المصرية لكتاب القصة والرواية المستشار شريف العجوز أن "الاحتفال بانتصارات أكتوبر هو احتفال بالقيم التي صنعت النصر؛ قيم الإخلاص والتضحية والإيمان بالوطن"، مشيرًا إلى أن الأدب سيظل دائمًا ذاكرة الأمة ولسانها الناطق، يوثق بطولاتها ويغرس في وجدان الأجيال الجديدة روح العزة والانتماء.

بهذا اللقاء، تواصل الجمعية المصرية لكتاب القصة والرواية رسالتها في دمج الأدب بالهوية الوطنية، وتعزيز الوعي الثقافي الذي يتماشى مع مسيرة الجمهورية الجديدة، لتبقى الكلمة الحرة سلاحًا في معركة الوعي، وبوابة نحو مستقبل يليق بتاريخ مصر العريق.


الجمعية المصرية لكُتاب القصة والرواية تحتفل بانتصارات أكتوبر في مكتبة مصر العامة
الجمعية المصرية لكُتاب القصة والرواية تحتفل بانتصارات أكتوبر في مكتبة مصر العامة


الأدب – من توثيق الجرح إلى صناعة ملحمة النصر

الكلمة كسلاح: كيف مهد الأدب المصري طريق النصر في أكتوبر 1973

إذا كانت الأغنية هي صوت المعركة اللحظي، فإن الأدب كان هو الذاكرة العميقة التي صاغت ملحمة العبور واحتفظت بتفاصيلها الإنسانية والنفسية في وجدان الأمة، إذ أدرك الأدباء المصريون أن مسؤوليتهم لا تقل عن مسؤولية المقاتلين على الجبهة؛ فالكلمة كانت سلاحاً موازياً للبندقية، قادرة على زرع الأمل، واستنهاض الإرادة، وتوثيق مشاعر جيلٍ عاش ممزقاً بين هزيمة ساحقة ونصرٍ مجيد، ومن خلال الرواية والقصة والشعر والمسرح، رسم الأدب المصري لوحة شاملة للصراع بين الانكسار في يونيو 1967 وبزوغ فجر أكتوبر 1973.

أدب المقاومة: حينما رفض الوجدان الهزيمة

في أعقاب نكسة 1967، لم يكن الأدب مجرد مرآة تعكس الجرح، بل كان صوت الوعي الجمعي الذي قاوم الهزيمة وحاول إعادة بناء الذات الوطنية، إذ تراجع أدب البطولات الساذجة، وبرز ما يمكن تسميته بـ "أدب المقاومة والصمود"؛ وهو أدب حفر عميقاً في تربة الواقع، محاولاً تفسير أسباب الهزيمة، ومؤكداً أن النكسة لم تكن نهاية الطريق، بل كانت بداية الوعي الحقيقي.

يوسف إدريس: تشريح الذات ومقاومة الانكسار

يوسف إدريس، بعينه الثاقبة كطبيب وقاص، قدم صوراً رمزية للإنسان المصري الذي يتحدى واقعه، ففي أعماله السابقة مثل "العسكري الأسود" (1962)، وبالرغم من أنها كُتبت قبل النكسة، إلا أنها استُدعيت كرمز للمقاومة، حيث صوّرت الجندي المصري وهو يواجه عدواً أكبر منه، ليس فقط بالسلاح، بل بإرادة البقاء والكرامة.

النداهة: في قصة "النداهة" (1969)، جسّد يوسف إدريس صراع الهوية المصرية الأصيلة المتمثلة في شخصية "فاطمة"، الفتاة الريفية البسيطة التي تجذبها أضواء المدينة الصاخبة، لكنها تُسحق في دوامة الاغتراب والضياع، لم تكن "النداهة" مجرد قصة عن فتاة ريفية، بل رمزاً لمصر ذاتها وهي تواجه إغواء الحداثة الزائفة وضياع القيم بعد النكسة، فالقوى التي "تُنادي" البطلة ليست سوى صورة مجازية للمدينة التي تبتلع أبناءها وتفقدهم براءتهم وانتماءهم، ومن خلال الصراع بين الريف النقي والمدينة القاسية، عبّر إدريس عن الانقسام الداخلي في الوجدان المصري بين الأصالة والتغريب، بين الجذور والضياع، وهو الصراع الذي مثّل الخلفية النفسية لهزيمة 1967 .. لقد كانت "النداهة" في جوهرها صرخة إنذار مبكرة ضد الانفصال عن الجذور، ومقدمة فكرية لأدب المقاومة الذي مهد لمرحلة الوعي والنهوض قبل نصر أكتوبر.

جمال الغيطاني: صوت الخنادق ورائحة البارود

أما جمال الغيطاني، فكان صوته هو الأقرب إلى رائحة البارود وصوت الرصاص، فكونه مراسلاً حربياً، لم يكتب عن الحرب من برجٍ عاجي، بل من قلب الخنادق، ففي مجموعته القصصية "أرض.. أرض" (1972)، نقل تفاصيل حياة الجنود اليومية على الجبهة خلال حرب الاستنزاف.

حكايات الغريب: جاءت رائعة "حكايات الغريب" (1974) لتمثل ذروة أدب الحرب في مصر؛ إذ نجح جمال الغيطاني في أن يمزج بين التوثيق الواقعي لبطولات الجنود والأسطورة الشعبية التي تشكل وجدان المصريين منذ قرون، فلم يكتفِ الغيطاني بتسجيل مشاهد القتال أو تفاصيل العبور، بل كتب عن الإنسان المقاتل، عن الجندي البسيط الذي يحمل بين يديه سلاحاً وفي قلبه حباً للوطن يفوق الخوف والموت، فتحولت الحكايات إلى ما يشبه "سيرة هلالية" جديدة، تمتد جذورها في الموروث الشعبي المصري، لكنها تُروى هذه المرة على ضفاف قناة السويس لا في البوادي، وبأبطالٍ من لحم ودم، لا من خيال الشعراء، واستطاع الغيطاني من خلال لغته المشبعة بالرمز والروح الصوفية أن يرفع الحدث العسكري إلى مستوى الملحمة الإنسانية، حيث تتداخل البطولة بالقدر، والواقع بالحلم، في تأكيدٍ على أن المقاتل المصري لم يكن مجرد جندي في معركة، بل كان رمزاً للأمة التي تنهض من رماد الهزيمة نحو فجر النصر.

نجيب محفوظ: معركة الوعي قبل معركة السلاح

اختار نجيب محفوظ، فيلسوف الحارة المصرية، أن يحارب على جبهة أخرى: جبهة تشريح الذات وكشف العلل الداخلية، فلم يكتب عن الحرب كحدث عسكري، بل عن المناخ الذي أدى إليها، نرى ذلك في رواياته الرمزية بعد النكسة مثل "ميرامار" (1967)، التي كانت مرثية لمشروع وطني ضل طريقه، و"الحب تحت المطر" (1973)، وصولاً إلى عمله الصادم "الكرنك" (1974)، قدّم محفوظ نقداً ذاتياً جريئاً للواقع السياسي والاجتماعي، حيث طرح من خلاله أسئلة الحرية والمساءلة والقمع، مؤكداً أن النصر العسكري لا يمكن أن يتحقق إلا بتحرر الإنسان من قيوده الداخلية، وأن أول عبور نحو القناة كان عبوراً فوق جسر من العدل والحرية.

الكرنك: جاء فيلم "الكرنك" (1975)، المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ، ليشكل واحدة من أهم المحطات في تاريخ السينما المصرية التي تناولت ما قبل نصر أكتوبر، فالفيلم لم يكن مجرد دراما سياسية، بل شهادة فنية على مرحلة من القهر والاضطراب عاشها المجتمع المصري بعد النكسة، حيث جسّد الانكسار النفسي والإنساني لجيلٍ سحقته الممارسات السلطوية، لكنه لم يفقد إيمانه بالوطن، فمن خلال شخصيات مثل "زينب دياب" و"إسماعيل الشيخ"، عبّر الفيلم عن رحلة الوعي من الخوف إلى المواجهة، ومن الانكسار إلى التمرد، ليؤكد أن النصر العسكري لم يكن ليتحقق لولا النصر الداخلي على الخوف والسكوت، وقد امتزجت براعة محفوظ الفكرية برؤية المخرج علي بدرخان وأداء سعاد حسني ونور الشريف في صياغة عملٍ جمع بين الفن والسياسة، فصار "الكرنك" وثيقةً بصرية تؤرخ للعبور المعنوي الذي سبق عبور القناة.

إحسان عبد القدوس: الحب والوطن في لحظة الفداء

يُعد إحسان عبد القدوس واحدًا من أبرز الأدباء الذين مزجوا بين الرومانسية والفكر الوطني في أدب ما بعد النكسة وحرب أكتوبر، فقد كان يرى أن الحب في جوهره فعل مقاومة، وأن العشق الحقيقي لا ينفصل عن الإخلاص للوطن. 

الرصاصة لا تزال في جيبي: في روايته الشهيرة «الرصاصة لا تزال في جيبي» التي نُشرت عام 1974، قدّم نموذجًا فريدًا للأدب الوطني الذي جمع بين الدراما الإنسانية والبطولة العسكرية في قالبٍ روائي مشحون بالعاطفة والوطنية، حيث استلهم إحسان عبد القدوس روايته من الواقع الحقيقي لحرب الاستنزاف وحرب أكتوبر 1973، وصاغ شخصياته ببراعة تعكس التحول النفسي والاجتماعي الذي عاشه الجندي المصري بين هزيمة 1967 وانتصار 1973"، فـ "محمد" بطل الرواية، لم يكن مجرد جندي في الميدان، بل رمزًا لجيلٍ كامل جُرح بالهزيمة، ثم نهض ليستعيد كرامته بالقتال والفداء، أما البطلة "فاطمة"، فكانت تمثل مصر الأنثى في أنقى صورها: مُحبة، صابرة، مؤمنة بالعودة، تنتظر "محمد" كما ينتظر الوطن أبناءه العائدين من ميادين الشرف، من خلال هذا العمل، جسّد إحسان عبد القدوس فلسفة العبور النفسي قبل العسكري؛ فالانتصار في الرواية لا يتحقق فقط بالرصاصة التي تُطلق على العدو، بل بالرصاصة التي تبقى في الجيب – رمزًا للوعي المتأهب والدافع المستمر للدفاع عن الكرامة، وقد تحولت الرواية لاحقًا إلى فيلم سينمائي شهير عام 1974 من إخراج حسام الدين مصطفى، وبطولة محمود ياسين ونجوى إبراهيم، ليصبح أحد أهم أفلام الحرب في السينما المصرية وأكثرها تأثيرًا في وجدان المصريين.

فيلم الرصاصة لا تزال في جيبي 


بذلك، استطاع إحسان عبد القدوس أن يجعل من الرمز العاطفي مدخلًا إلى البطولة الوطنية، وأن يبرهن على أن الأدب، في لحظات الخطر، لا يكتفي بتوثيق الحدث، بل يزرع في القلوب الإيمان بأن الحب للوطن هو أسمى أشكال المقاومة.

يوسف القعيد ويحيى الطاهر عبد الله: الإنسان في مواجهة الواقع

على جبهة أخرى من الأدب، قدّم يوسف القعيد في رائعته "الحرب في بر مصر" (1978) صورة نقدية لاذعة للمجتمع وقت الحرب، ولم تكن روايته عن بطولات المعارك، بل عن الفساد الاجتماعي الذي ينخر في جسد الوطن حتى في أقدس لحظاته، من خلال قصة الشاب الفقير "مصري" الذي يُرسل إلى الحرب بدلاً من ابن العمدة، فلقد كشفت الرواية أن الحرب لم تكن فقط ضد عدو خارجي، بل كانت أيضاً ضد عدو داخلي من الجهل والفساد والطبقية.
أما يحيى الطاهر عبد الله، فجسد في أعماله الملحمية مثل "الطوق والأسورة" (1975) صمود الإنسان المصري في صعيد مصر وقدرته على تحمل أقسى الظروف، وهي الروح نفسها التي حملها الجندي المصري معه إلى الجبهة.

الطوق والأسورة: رواية "الطوق والأسورة" (1975) ليحيى الطاهر عبد الله تُعد واحدة من أهم الأعمال الأدبية التي سبقت نصر أكتوبر وأرّخت لمعاناة الإنسان المصري في صعيده العميق، حيث الفقر والجهل والموت يتربصون بالحياة في كل زاوية، لم تكن الرواية عن الحرب بشكل مباشر، بل عن البيئة النفسية والاجتماعية التي خرج منها المقاتل المصري الذي عبر القناة بعد سنوات قليلة، ففي هذا العمل الملحمي، يصوغ يحيى الطاهر عبد الله مأساة أسرة فقيرة في قرية من قرى قنا، تتوارث القهر جيلاً بعد جيل، في دائرة مغلقة من الحرمان والقدر المحتوم، يرمز إليها “الطوق” و“الأسورة”، ومع ذلك، وسط هذا الظلام، يلمع في النص ضوء صغير من الإصرار والحلم، هو ذاته الضوء الذي حمله الجندي المصري إلى خندقه على الجبهة .. تتميز الرواية بلغتها الشعرية الكثيفة، وإيقاعها الشفاهي المستمد من السرد الشعبي، لتصبح أشبه بـ ملحمة إنسانية عن الصبر والمقاومة والصمود، وقد رأى النقاد أن “الطوق والأسورة” ليست فقط وثيقة فنية عن الريف المصري، بل هي مرآة للروح الوطنية التي صمدت في وجه القهر لتنهض من جديد، تماماً كما نهضت مصر من النكسة إلى نصر أكتوبر.

الشعر والمسرح: صرخة الروح وصوت الغضب

لم يغب صوت الشعراء والمسرحيين عن تلك المرحلة، فقد كانوا الشرارة الأولى التي أشعلت فتيل المقاومة في الوجدان الجمعي. جاءت قصيدة أمل دنقل الشهيرة «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» (1969) بمثابة البيان الشعري الأول لمرارة الهزيمة، وتحولت عبارته الخالدة «لا تصالح ولو منحوك الذهب» إلى شعار وطني يرفض الاستسلام، ليصبح شعره وثيقة وجدانية موازية للسلاح في تأثيرها، وصوتًا يوقظ الضمير الجمعي ويدعو إلى الصمود والتحدي.

وكان الشعر هو اللسان الأكثر صدقًا في التعبير عن وجدان الحرب؛ فقصائد صلاح جاهين العامية حملت بساطتها دفء الشارع المصري وروحه الساخرة المقاومة، بينما قدّم أمل دنقل عبر قصيدته «الكعكة الحجرية» تصويرًا بليغًا لمعنى التضحية والثبات، مؤكدًا أن النصر يولد من رحم المعاناة والإيمان بالوطن.

وفي المسرح، كتب صلاح عبد الصبور رائعته الشعرية «ليلى والمجنون» (1971)، التي جسدت الانكسار الإنساني والبحث عن الخلاص في عالمٍ مضطرب، معبّرة عن حيرة جيلٍ بأكمله عاش بين الهزيمة والأمل.

أما في الشارع والمقهى والجامعة، فقد كان صوت الشعب يتجسد في أغاني الثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، اللذين قدّما بأغانيهما اليومية "جريدة الشعب" التي صاغت شعارات المقاومة بلغة بسيطة حادة، وسخرت من الواقع بذكاء، لتُبقي جذوة الوعي والغضب والأمل مشتعلة في القلوب.

الأدب بوصفه جبهة ثانية للعبور

هكذا، مهد أدب المقاومة الطريق النفسي والفكري للعبور العظيم، فلم يكتفِ الأدباء بتصوير الجرح، بل حولوه إلى طاقة إبداعية حفّزت المجتمع على النهوض، فلقد أسهم الأدب في بناء جبهة داخلية صلبة، قادرة على استيعاب الألم وتحويله إلى وعي وإصرار، مما جعل القلم شريكاً حقيقياً للبندقية في صناعة فجر أكتوبر 1973.

أدب الحرب والتوثيق الروائي

بعد النصر، انطلق الأدباء لتوثيق بطولات الحرب من منظور إنساني، فقدموا صورة واقعية للجندي المصري البسيط الذي صنع هذا النصر .. لقد أظهروا أن دور الأدب والفن في نصر أكتوبر العظيم هو أنسنة الملحمة، وتحويل الأرقام والإحصائيات إلى قصص بشرية نابضة بالحياة.

الأدب بعد النصر: كيف حفظ الكُتّاب ذاكرة العبور

بعد أن تحقق النصر في أكتوبر 1973، لم يتوقف الأدب المصري عند حدود الاحتفال، بل تحوّل إلى دفتر الذاكرة الوطنية الذي حفظ تفاصيل العبور جيلاً بعد جيل، فقد أدرك الكُتّاب أن المعركة لم تنتهِ بانتهاء إطلاق النار، بل بدأت معركة أخرى: معركة الوعي والتوثيق.
تناول الأدباء بطولات الجنود ببعدٍ إنساني عميق، وكتبوا عن التحولات الاجتماعية والسياسية التي أعقبت النصر، محاولين رسم ملامح مصر الجديدة التي ولدت من رحم الحرب.
كما تناولت مسرحيات نعمان عاشور وسعد الدين وهبة وألفريد فرج روح النصر من منظور جماعي، مؤكدين أن النصر لم يكن مجداً فردياً بل ثمرة وعي جمعي وتضحية مشتركة.
في هذا السياق، أصبح الأدب بعد أكتوبر جسر الذاكرة بين الجيل الذي قاتل والجيل الذي قرأ، فحمل القصص والروايات والمسرحيات عبق التراب الممزوج بالعرق والدم، ليبقى العبور لا مجرد حدثٍ عسكري، بل رمزاً أبدياً لإرادة أمة لا تعرف الانكسار.

الخاتمة: قلم وبندقية

وهكذا يتضح أن الأدب المصري لم يكن يومًا مجرد انعكاس للواقع أو تسجيلٍ للأحداث، بل كان شريكًا أصيلًا في صناعة الوعي وصون الذاكرة الوطنية. فمنذ لحظة الانكسار في يونيو 1967 وحتى لحظة النصر في أكتوبر 1973، ظل القلم يقاتل جنبًا إلى جنب مع البندقية، يداوي الجرح بالكلمة، ويشحن القلوب بالإيمان والعزيمة. كانت القصص والروايات والمسرحيات والقصائد بمثابة جبهة ثانية للعبور، حملت على عاتقها مهمة الحفاظ على روح الوطن من الانكسار، وإعادة بناء الثقة في الذات المصرية التي لا تعرف الهزيمة.

لقد أدرك الأدباء المصريون أن المعركة الكبرى لم تكن فقط على جبهة القتال، بل على جبهة الوعي، حيث تتشكل هوية الأمة وتُصاغ ذاكرتها الجمعية. لذلك، تحوّل الأدب إلى سلاح استراتيجي في معركة الوعي، يوثق، ويحلل، ويُعبّر عن الإنسان المصري في أوج ضعفه وقوته، في لحظات الانكسار والانبعاث.

فعلى صفحات يوسف إدريس وجمال الغيطاني ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف القعيد ويحيى الطاهر عبد الله، تجلت مصر الحقيقية: الإنسان البسيط الذي يواجه المستحيل بالإيمان، ويصنع من الحلم واقعًا، ومن الألم أملاً.

وبفضل هذا الأدب، لم يتحول نصر أكتوبر إلى حدثٍ عابر في كتب التاريخ، بل إلى ملحمة إنسانية خالدة تتوارثها الأجيال عبر الكلمة، تمامًا كما تتوارث البطولات عبر الدماء. فقد أثبت الأدب أن الانتصار الحقيقي لا يُقاس فقط بعدد الدبابات أو مساحة الأرض المستردة، بل بقدرة الأمة على أن تكتب تاريخها بنفسها، وتغرس في وجدان أبنائها قيم التضحية والانتماء والكرامة.

واليوم، حين تحتفل الجمعية المصرية لكتاب القصة والرواية بذكرى انتصارات أكتوبر المجيدة في رحاب مكتبة مصر العامة، فإنها لا تستعيد الماضي فحسب، بل تؤكد أن الأدب ما زال ضمير الأمة وذاكرتها الحية، يواصل رسالته في بناء الإنسان، وصيانة وعيه، وتعزيز مكانة الوطن في قلوب أبنائه.

إن هذا اللقاء الأدبي ليس مجرد احتفالية رمزية، بل هو تجديدٌ للعهد بأن تظل الكلمة الحرة سلاحًا في معركة الوعي، وجسرًا بين الماضي والمستقبل، وأن يظل الأدب، كما كان دائمًا، نورًا يهدي الطريق نحو وطنٍ لا ينكسر ولا ينسى.

اقرأ أيضًا: 

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال